الابتكار .. والشمولية

سابقا كان هناك خلط كبير بين مفهوم الابتكار والاختراع، والبعض كان يعرفه أو يحصره في مفهوم اختراع أمر مستجد أو جديد، وهذا في تصوري يعد فهما قاصرا جدا، خصوصا في هذا الوقت وما نشاهده من تقدم وتطورات تقنية وإبداعات تكنولوجية باهرة، ولذا بات الآن واضحا وجليا أن مفهوم الابتكار، يمكن أن يكون عن طريق عدة طرق وأساليب لحزم من الأفكار المتقنة الجديدة الخلاقة، التي يمكن دمجها مع بعضها بعضا بطريقة تكاملية للخروج بأعمال نوعية فعالة ذات قيمة وفائدة، سواء اجتماعية إنسانية أو اقتصادية استثمارية أو دفاعية أمنية أو كل ذلك معا وغيره، وبذلك يمكن القول إن الابتكار بمفهومه الصحيح ليس محصورا على فئة أو نخبة معينة من الناس دون غيرها، كما هو سائد عند كثير، ممن يعتقد ويصف الابتكار بأنه وظيفة حصرية لفئة معينة من الأذكياء من البشر، أولئك الذين حباهم -المولى سبحانه- بقدرات ومواهب خارقة، ونحو ذلك من هالات التفوق وغيرها من المتطلبات، التي صيغت دون مبرر أو سبب واضح، ولعل هذا الوصف كان من أحد العوامل، التي ساعدت كثيرا وإلى حد ما من انتشار الابتكار للأسف ولفترات طويلة من الزمن، وأبعد الكثير من الناس منذ نعومة أظفارهم كل البعد عنه، وذلك لعدم فهمهم الفهم الصحيح له ولمدلولاته ومعانيه الكامنة، وبالتالي عدم ممارسته ولا الاهتمام بوظيفته ولا ممارساته، وبالتالي الحرمان من نتائجه الحقيقية المبهرة، وأدى عدم فهمه بالطريقة الصحيحة إلى فقدان التحديث والتطوير والنماء والمستقبل الزاهر، والتي تعد سمة من سمات المجتمعات المبتكرة.
ما تغفل عنه كثير من المجتمعات، خصوصا التقليدية منها، هو أن الابتكار يتمتع بالشمولية والعمومية، وهو حاضر بل ومتغلغل في مختلف تفاصيل حياتنا، سواء على المستوى الاجتماعي، وأعني بذلك، إدارة الذات والتعامل مع الناس، من خلال الأداء الوظيفي في بيئة العمل، أو حتى من خلال داخل الأسر نفسها وعلاقتها، وما يتم من إجراءات ومعالجات حكيمة لكثير من المشكلات، وما يتم تقديمه من حلول يعد هذا من صميم الابتكار، الذي نجده أيضا حاضرا بكثافة حتى في الجانب الفردي والشخصي، حينما يتمكن الإنسان من تطوير ذاته وصناعة الفارق، وتلبية متطلبات حياته وابتكار الحلول والمعالجات لإدارتها، وهنا يظهر لنا أثر الابتكار في شتى مناشط الحياة المتعددة والمختلفة، التي لا يمكن حصرها.
ولعل السؤال، الذي يخطر لدي هنا: هل نحن نمارس حقا عمليات التفكير الإيجابي؟
هل تعي عقولنا وتدير مداركنا أهمية عمليات الأفكار وتوليدها؟ وهل نفكر دوما في تقديم الحلول للتحديات والعقبات التي تواجهنا وتقديم الحلول لمختلف مشكلاتنا في أي مجال من مجالات الحياة التي نعيشها ونواجهها؟ وهل ندرك أو أدركنا أهمية وضرورة توفير التعليم المستند إلى مهارات التفكير الابتكاري والإبداعي لمجتمعنا؟ وهل نحرص على غرس ذلك في عقول النشء لدينا والأجيال القادمة؟ وهل ندرك ونستشعر أهمية وضرورة نشر التفكير الابتكاري، الذي يتم من خلاله تقديم المعالجات والحلول للتحديات والصعوبات ويساعدنا على ذلك، من خلال البحث والتطوير؟ وهل أدركنا أهمية كل تلك العمليات وضرورتها وحيويتها وأثرها في حاضرنا وطموحاتنا المستقبلية؟، ورغم أن كل هذه التساؤلات، مشروعة وعلى مستوى عال من الأهمية، وأن بعضها قد يطول الحديث عنها، ويتفرع عنها أسئلة أخرى أشد حدة، ويمتد النقاش حولها، ولكن حسبي توجيهها لكل شخص منا، لمحاولة الإجابة عنها، حتى في حدودها الدنيا وعلى المستوى الشخصي، لشغل عقولنا بعمليات التفكير التي ربما لم يعتد عليها البعض، والاستمرار بمثل هذه الآلية والإيجابية، ونحن في عصر وحقبة يسيطر عليها الذكاء الاصطناعي والتحول الإلكتروني والتقدم الرقمي بكل احترافية وامتياز، وأصبحنا نعيش في عصر محمل بالتقنيات والإبداعات التكنولوجية التي لا مثيل لها في التاريخ أو الأجيال السابقة.
ومع أهمية وحيوية وجوهرية الابتكار في جميع المناشط، إلا أن الاستثمار فيه يعد أكثر أهمية وفعالية وخاصة خلال مواجهة الأخطار، سواء في مجال الصحة أو الاقتصاد أو الدفاع والأمن وغيرها.. ولذا نجد أنه أصبح هناك تجمعات للابتكار وللعلوم والتكنولوجيا حول العالم، ويلعب دور وكثافة وأعداد المخترعين والعلماء المؤلفين والمبدعين في عالم التقنية والعلوم والتكنولوجيا دورا كبيرا في ترتيب الدول على مستوى العالم في تلك التجمعات وأصبح يطلق عليها "مراكز العلوم والتكنولوجيا"، حيث تصدر المركز الأول في العالم في هذه التجمعات تجمع مركز العلوم والتكنولوجيا بطوكيو يوكوهاما، وتلاه تجمعات شنزن -هونج كونج- قوانجتشو "الصين وهونج كونج، الصين"، وبيجين "الصين"، وسيول "جمهورية كوريا"، وسان خوسي ــ سان فرانسيسكو "الولايات المتحدة"، حسب تقارير مؤشر الابتكار العالمي لعام 2022.
ولعل تشكيل اللجنة العليا للبحث والتطوير والابتكار في 2021، يكون ارتباطها بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية مباشرة، ويرأسها رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وكذلك إنشاء هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، التي أسست بقرار مجلس الوزراء 2021، يوضح مدى اهتمام القيادة بمفهوم الابتكار وشموليته، ويبدو ذلك جليا أيضا من خلال تتبع رؤية المملكة 2030، التي تركز على دعم هذا الجانب المهم من خلال مبادراتها وشراكاتها، التي تعمل على تنوع الاستثمار واتساع حجم السوق المحلية، وزيادة الإنفاق لدعم وتنمية قطاع البحث والتطوير والابتكار، لتحقيق شموليته في جميع الجوانب المختلفة، وأرى أن أبرز التحديات في هذا الجانب هو تحقيق العملية التكاملية وضرورة الاستيعاب لأهمية التعاون والتنسيق بين جميع المراكز البحثية والجامعات بمراكزها البحثية ومراكز ريادات الأعمال والوزارات والهيئات الحكومية والمدن الصناعية والقطاع الخاص، والعمل على حوكمة البحث والتطوير والابتكار من خلال منصة ابتكار إلكترونية رقمية وطنية متعددة التخصصات والمجالات، الحيوية التي تلامس الاحتياجات والتوجهات المحلية والإقليمية والدولية، بخطط استراتيجية محكمة، وتربط جميع عناصر المنظومة مع بعضها بعضا، لتصبح أكثر تطورا وشمولية وفاعلية، وبالتالي نستطيع تحقيق مستويات عالية ذات أثر وقيمة فعالة في مجالات شتى اقتصادية، اجتماعية، ودفاعية وغيرها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي