الابتكار ومسألة القيمة الاجتماعية

يستند الابتكار إلى معرفة حية، بمعنى أنها معرفة قابلة للتطبيق بكفاءة وفاعلية تمكنها من تقديم قيمة مستهدفة. ويمكن لهذه القيمة المستهدفة أن تكون اقتصادية أو تكون اجتماعية، أو بالطبع الاثنتين معا. وللابتكار أنواع متعددة، فهناك الابتكار التقني المستند إلى المعرفة الحية اللازمة لتصنيع أو تطوير منتجات تقنية متميزة تحمل قيمة، أو ربما الابتكار المستند إلى معرفة حية تؤدي إلى تطوير عمليات تصنيع سلعة مطلوبة نحو أداء إنتاجي أفضل يعطي قيمة مضافة. ثم هناك الابتكار التقني الناعم الذي يقدم منتجات تتميز عن منتجات أخرى بتصميم جديد يتمتع بتأثير حسي جاذب، يتمثل في شكل المنتج، وليس في كفاءته أو فاعلية أدائه، كما نجد في التصاميم المتجددة لأشكال السيارات، على سبيل المثال، لا الحصر. وترتبط القيمة المستهدفة للابتكار التقني، عموما، بالجانب الاقتصادي.
وهناك، إلى جانب الابتكار التقني، ما يعرف بالابتكار الاجتماعي الذي يقدم معرفة حية تتضمن حلولا جديدة لمشكلات اجتماعية، تحمل خصائص تميزها عن حلول سابقة، وتعطي فوائد تتمتع بقيمة اجتماعية غير مسبوقة. وتشمل مثل هذه الحلول ما يتعلق بقضايا التعليم، والصحة، والبيئة، والخدمات الاجتماعية، والحد من البطالة، وغير ذلك. وهناك ابتكارات أخرى تحمل قيمة ترتبط بموضوعات مختلفة أخرى.
تقول الحقيقة على أرض الواقع إن القيمة الاقتصادية التي يقدمها ابتكار تقني ما يمكن أن تحمل أيضا أثرا اجتماعيا، كما أن القيمة الاجتماعية التي يقدمها ابتكار اجتماعي يمكن أن تحمل أثرا اقتصاديا. ولعلنا، في سبيل توضيح ذلك نعود إلى ابتكارين مهمين، كان لهما تأثير تاريخ كبير، كل في مجاله وزمانه. يرتبط الابتكار الأول منهما بالجانب التقني اقتصادي التوجه، ويتعلق الآخر بالجانب الاجتماعي الموجه نحو الارتقاء بحياة الإنسان.
جاء الابتكار الأول على يد هنري فورد Henry Ford أحد رواد صناعة السيارات، حيث بدأت شركته صناعة السيارات في 1903. ظهر الابتكار المقصود 1913 وتمثل في أسلوب متميز جديد في صناعة السيارات. تضمن هذا الأسلوب القيام بالتصنيع عبر "خط تجميع Assembly Line"، تبنى السيارة عبره تدريجيا في مسيرة ذات اتجاه واحد. يبدأ الخط بهيكل أساس للسيارة، تضاف إليه المكونات الأخرى، التي يتم تصنيعها مسبقا، وذلك مرحلة بعد أخرى، وبشكل متسلسل، لينتهي الخط بسيارة تتكامل فيها المكونات، وتكون جاهزة للتجربة. وتم تنفيذ هذا الخط، لأول مرة، في إنتاج سيارة فورد الشهيرة، والمعروفة "بالنموذج Model T". ونظرا إلى الفوائد الناتجة عن هذا الأسلوب، تم ويتم تنفيذه ليس فقط في صناعة السيارات، بل في مختلف الصناعات الأخرى التي تقدم سلعا متعددة المكونات.
كان لأسلوب "خط التجميع" فوائد اقتصادية مهمة، حيث أدى إلى تسريع الإنتاج، وخفض تكاليفه، والتوسع في حجمه، وزيادة أرباحه. وإلى جانب هذه الفوائد الاقتصادية، كانت هناك فوائد اجتماعية مهمة في جانبين رئيسين، جانب يرتبط بأثر المنتج، وآخر يتعلق بأثر خط الإنتاج. في جانب أثر المنتج، بات هذا المنتج متاحا في السوق بتكاليف أقل، ما أدى إلى توسع دائرة المستفيدين منه والتمتع بفوائده في كل من حياتهم الشخصية، أي اجتماعيا، وعملهم المهني، أي اقتصاديا أيضا.
أما في جانب خط الإنتاج، فقد أضاف أثرا آخر، تمثل في التمكن من توظيف عمال بمهارات محدودة، لم يكن بالإمكان توظيفهم من قبل. والسبب هو أن خط الإنتاج مقسم إلى مراحل متعددة، يتطلب كل منها عملا بسيطا يحتاج إلى مهارة محدودة يمكن التدرب عليها في وقت قصير. وبالطبع كانت لذلك قيمة اجتماعية مهمة إلى جانب القيمة الاقتصادية. صحيح أن الآلات كان لها دور، بعد ذلك، في خط الإنتاج واستبعاد بعض أصحاب الأعمال البسيطة، إلا أن ذلك لا ينفي القيمة الاجتماعية في ذلك الوقت، أي قبل أكثر من قرن من الزمن، حيث كان التعليم والتدريب محدودا، وكان التقدم التقني كذلك أيضا. فلكل عصر معطيات تناسبه. ولا شك أننا هذه الأيام أمام مزيد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية، وعلى رأسها بروز تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتطورها المطرد.
وننتقل من مثال الابتكار التقني اقتصادي التوجه، والأثر الاجتماعي الذي يعطيه، إلى مثال الابتكار الاجتماعي والقيمة الاجتماعية التي يقدمها، إلى جانب الأثر اقتصادي الذي يواكبه. وصاحب الابتكار هنا هو محمد يونس الذي حاز بسببه جائزة نوبل للسلام في 2006. ويتلخص هذا الابتكار بعنوانه "التمويل الأصغر Micro-financing". فقد رأى المبتكر أن الأسر والمؤسسات الصغيرة المنتجة أو القادرة على الإنتاج، في وطنه بنجلادش، تحتاج إلى قروض صغيرة لكي تعمل وتزدهر وتعزز جودة الحياة.
كانت المشكلة هنا أن هذه الأسر والمؤسسات لا تملك الضمانات اللازمة للحصول على القروض من البنوك التقليدية. وكان الحل هو بنك غير تقليدي يمنحها قروضا محدودة دون ضمانات. وهكذا تم منح قروض صغرى إلى عديد من الأسر والمؤسسات الصغيرة لتتكلل النتيجة العامة بنجاح كبير في كل من الجانبين الاجتماعي والاقتصادي. صحيح أن النجاح لم يكن شاملا تماما لجميع الأسر والمؤسسات الصغيرة، لكن النجاح بأكثرية كبيرة جعل الحصيلة متميزة ذاع صيتها حول العالم.
نعود بالمثالين السابقين إلى الحقيقة القائلة إن القيمة الاقتصادية التي يقدمها ابتكار تقني يمكن أن تحمل أثرا اجتماعيا، كما أن القيمة الاجتماعية التي يقدمها ابتكار اجتماعي يمكن أن تحمل أثرا اقتصاديا. وبما أن المجتمعات الإنسانية تحتاج إلى الجانبين معا، فهي تحتاج إلى مؤسسات ثنائية الغاية تتبنى الابتكار مزدوج العطاء بشكليه الاقتصادي المؤثر اجتماعيا، والاجتماعي المؤثر اقتصاديا. وتقوم المؤسسات المملوكة للدول، كليا أو جزئيا، بمثل ذلك، وقد تحدثنا عنها في أكثر من مقال سابق.
تحتاج التنمية نحو حياة أفضل إلى الاهتمام بالمعرفة الحية، إبداعا وتفعيلا، والتوجه في ذلك نحو تقديم مبتكرات تقنية واجتماعية تحمل قيمة تتمتع، ليس فقط بعطاء اقتصادي، بل بمزايا اجتماعية أيضا. وإذا كان لدينا مثل ذلك فعلا على أرض الواقع، فلعل المؤسسات الناشئة، أو قيد الإنشاء، تضيف مزيدا في المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي