التعليم من أجل الابتكار والتعلم المستقل «2 من 3»
بدأ المقال السابق بطرح أحد المعطيات الرئيسة لكتاب أجنبي، مترجم إلى العربية، أصدرته مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع «موهبة»، ويحمل عنوان المقال ذاته. وشمل ذلك بيان مفاهيم التعلم والتعليم والابتكار، وإبراز الحاجة إلى تطوير التعليم، وعرض المتطلبات الأولية العامة لهذا التطوير، إضافة إلى إلقاء الضوء على الثورات التعليمية الثلاث: الأولى، التي تميزت بإطلاق المدارس في القرن الرابع قبل الميلاد. والثانية، التي تميزت بنشر الكتب في القرن الـ15 للميلاد. ثم الثالثة، التي اهتمت بالتوسع في تطبيق التقنية الرقمية في التعليم والتعلم مع مطلع الألفية الثالثة للميلاد. وأكد المقال أن أثر هذه الثورات كان تراكميا ولم يكن إلغائيا، حيث عززت كل ثورة ما قبلها بإمكانات جديدة غير مسبوقة.
يتابع هذا المقال سابقه ويطرح معطى رئيسا آخر، يرتبط بمسألة تطوير التعليم باتجاه الابتكار. ويشمل ذلك بيان العوامل الرئيسة المؤثرة في بيئة التعليم، إلى جانب عرض نموذج عام لإصلاح التعليم. ويتضمن ذلك أيضا إيضاح الفرق بين خصائص التعليم التقليدي القائمة على أرض الواقع، وخصائص التعليم الابتكاري المنشود. وتبقى لنا معطيات رئيسة أخرى للمقال المقبل تتمثل في التوجهات المطلوبة لبناء التعليم الابتكاري المطلوب، وبيان خصائص التعليم المستقل، وإلقاء الضوء على أمثلة تعليمية متميزة قائمة في كل من إنجلترا والبرازيل.
إذا بدأنا ببيئة التعليم في أي دولة من الدول، نجد أنها ترتبط، بأربعة عوامل رئيسة. يهتم عاملها الأول بالحالة التعليمية العامة التي تتعلق بكل من ثقافة المجتمع وحالته المعرفية من جهة، وأنظمة التعليم ومؤسساته القائمة على أرض الواقع من جهة ثانية. ويرتبط العامل الثاني بالموارد والتقنيات المتاحة كميا ونوعيا، إضافة إلى مدى توافقها مع الاحتياجات القائمة. ويركز العامل الثالث على عملية التعلم، بما يشمل العلاقة بين المعلم والطالب، وما يتضمن نظرية التعلم وأساليب تحقيق التعلم المنشود. ثم ينظر العامل الرابع إلى البيئة التعليمية بمنظار عالمي واسع النطاق، يشمل المصادر المعرفية المتاحة على مدى العالم بأسره.
وننتقل إلى إصلاح التعليم، حيث يعرض نموذجا عاما لهذا الإصلاح، منطلقا من عوامل بيئة التعليم، ومبنيا على أربعة متطلبات رئيسة. يرتبط أول هذه المتطلبات بالدور التوجيهي للدولة والأثر الفاعل لهذا الدور في تحقيق الإصلاح المطلوب. ويهتم المتطلب الثاني بالحاجة إلى إصلاح تعليمي يسعى إلى تحقيق رغبات السوق، أي المتطلبات المهنية التي يحتاج إليها المجتمع ويتطلع إلى وجودها في مخرجات التعليم. ثم يركز المتطلب الثالث على ضرورة الاعتماد على أصحاب الخبرة لكي يكون الإصلاح مبنيا على أسس سليمة، تستند إلى تجارب موثقة، ومعرفة مدعمة بمضامين فكرية وحجج منطقية. ويؤكد المتطلب الرابع، بعد ما تقدم، المشاركة الاجتماعية في الإصلاح، والمقصود هنا هو إتاحة الفرصة أمام أصحاب العلاقة بالتعليم، وهم أبناء المجتمع بأسره، إبداء ملاحظاتهم ومرئياتهم في احتياجات الإصلاح المنشود.
ونصل إلى مناقشة الفرق بين خصائص التعليم التقليدي القائم على أرض الواقع، وخصائص التعليم الابتكاري الذي نتطلع إليه. وفي هذا الشأن، ستة مجالات رئيسة لهذه الخصائص، تتيح مقارنتها وبيان نقاط الاختلاف فيما بينها. يرتبط المجال الأول للخصائص المطروحة بالأساس، أو المبدأ، الذي يستند إليه التعليم. ويرى الكتاب هنا أن أساس التعليم التقليدي هو "التلقين"، وأن أساس التعليم الابتكاري هو "التساؤل". ولعل من المناسب هنا ذكر أن سقراط، وهو من أهم شخصيات الثورة التعليمية الأولى، اعتمد في تدريسه لطلابه على التساؤل وليس على التلقين.
وتجدر الإشارة إلى أن العالم الشهير أفلاطون، صاحب "الأكاديمية"، كان من تلامذة سقراط، كما أن أرسطو الشهير أيضا، وصاحب "الليسيوم"، كان بدوره من تلاميذ أفلاطون. وعلى الرغم من أن هذه المدارس الأولى اعتمدت على أسلوب سقراط في التساؤل، إلا أن الأعوام بعد ذلك رجحت التلقين تدريجيا في المدارس التي انتشرت على نطاق واسع حول العالم. وقد يكون السبب هو أن أسلوب التلقين يسمح بإدراج مادة علمية أكبر في مناهج التعليم من أسلوب التساؤل، لكن التساؤل يبقى وسيلة مهمة لتفعيل التفكير، وتعزيز الابتكار الذي تحتاج إليه التنمية وتسعى إليه.
يطرح الكتاب موضوع العلاقة بين حقول المعرفة في التعليم كمجال من مجالات رصد الخصائص بين التعليم التقليدي والتعليم الابتكاري. وهو يرى أن التعليم التقليدي يمارس عزلا تاما بين حقول المعرفة، وأن هذا العزل جزئي فقط في التعليم الابتكاري. ويتجلى العزل في حقول المعرفة في تقسيمات الكليات والأقسام في الجامعات. لكن هناك أفكارا وممارسات كثيرة تسعى إلى تمكين الطلاب من دراسة حقول مختلفة تناسب متطلبات السوق، إضافة إلى إجراء البحوث في موضوعات ترتبط بأكثر من حقل معرفي.
وهناك بعد ذلك في مجالات الخصائص موضوع توجه التعليم، حيث يرى الكتاب أن التعليم التقليدي يتوجه أساسا نحو اكتساب المعرفة، بينما يوسع التعليم الابتكاري دائرة اهتماماته لتشمل الاستجابة للميول وتحصيل ليس فقط المعرفة، بل المهارة أيضا. أي أن التعليم الابتكاري يختلف عن التعليم التقليدي في هذا المجال، حيث يتمتع بنظرة أكثر اتساعا لمتطلبات الحياة، واستجابة أكبر لهذه المتطلبات.
ويطرح الكتاب مجالين للعلاقات في إطار التعليم. أولهما العلاقة بين المعلم والطالب التي يراها أقل انعزالا في التعليم الابتكاري عنها في التعليم التقليدي، نظرا إلى التواصل الذي يتيحه. أما العلاقة الثانية فهي بين المتعلمين، حيث يراها أيضا أقل انعزالا في التعليم الابتكاري. وفي المجال السادس والأخير للخصائص التي يطرحها الكتاب، وهو مجال المكان. يرى الكتاب أن التعليم التقليدي محدد المكان، سواء كان هذا المكان حضوريا أو افتراضيا، لتنفيذ التلقين المطلوب، لكن التعليم الابتكاري غير محدد المكان، حيث يمكن اللقاء وتبادل الآراء والشراكة في الأفكار في أي مكان، وفي أي وقت، كأوقات الإجازات والرحلات المشتركة. ولنا عودة في المقال المقبل لاستكمال طرح المعطيات المهمة... يتبع.