هل يواجه الاقتصاد العالمي ركودا أم أزمة مقبلة؟
لا يقف الاقتصاد الأمريكي وحده ومؤسساته المالية والنقدية على مفترق طرق! ولم يعد الأمر متوقفا عند احتمالات مرتفعة بدخوله مرحلة ركود قد تمتد إلى مطلع الربع الأول من 2024، وقد تتطور إلى ما هو أسوأ من ذلك قياسا على تفاقم ورطاته المالية والمصرفية، التي تتجاوز إفلاس ثلاثة بنوك في أسبوع واحد فقط، بل قد تتجه إلى مثلث من الأزمات الاقتصادية والمالية على حد سواء، تتضمن انكماش النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلي التضخم والبطالة، وارتفاع فاتورة فوائد الدين العام الأمريكي، من جانب ثان تفاقم واتساع دائرة القطاع المصرفي الأمريكي، الذي وصلت أصداؤه العكسية الأولية إلى منطقة اليورو، من جانب ثالث ما ستؤدي إليه تلك الفوضى الأمريكية اقتصاديا وماليا من انعكاسات مؤلمة على بقية الاقتصادات حول العالم، نظرا إلى الثقل الكبير الذي تشكله الولايات المتحدة في موازين الاقتصاد والتجارة والاستثمار والمصرفية عالميا.
تأخر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في المواجهة الجادة للتضخم أوائل 2021، ثم تهور مسرع الخطى في العام التالي برفعه معدلات الفائدة "تسع مرات متتالية" بنحو 475 نقطة أساس خلال أقل من 12 شهرا متتاليا، إلى أن بلغ بمعدل الفائدة أعلى مستوى له منذ آب (أغسطس) 2007، حتى اصطدم بهشاشة القطاع المصرفي الأمريكي وإفلاس ثلاثة بنوك في ظرف أسبوع واحد، التي كانت جميعها مـعفاة من الإشراف الـمـعـزز بموجب قانون الإغاثة التنظيمية منذ أيار (مايو) 2018 إبان رئاسة ترمب، وبناء على هذا لم يكن أي من تلك البنوك ولا بقية البنوك المماثلة لها في حجم الأصول، التي بدأ بعضها الترنح أخيرا مضطرة إلى الخضوع لاختبارات الإجهاد، التي كان في إمكانها اكتشاف أو حتى منع انهياراتها وإفلاسها المفاجئ والسريع جدا. كل هذا وغيره من التخبطات المصرفية، أفضت بأن يجد مجلس الاحتياطي الأمريكي الفيدرالي نفسه مضطرا أمام صدمة مصرفية اقتضت تخليه عن أكثر من 60 في المائة من سياسة تشديده الكمي، ويجد الاحتياطي الفيدرالي وإدارة الخزانة الأمريكية أمام "المهمة المستحيلة"، المتمثلة في المحافظة على توازن استقرار الأسعار "التضخم" من جانب، التي تقتضي استمرار رفع معدل الفائدة وزيادة التشديد النقدي، لكن من جانب آخر يقف مع إدارة الخزانة أمام ضرورة المحافظة على الاستقرار المالي، التي تقتضي خفضا لمعدل الفائدة والعودة إلى سياسة التسهيل الكمي، وقد قضت الأخيرة على أكثر من 60 في المائة خلال أقل من أسبوعين فقط من التشديد الكمي، الذي جرى تنفيذه منذ نيسان (أبريل) 2022 حتى ما قبل سقوط البنوك الثلاثة في هوة الإفلاس قبل أسبوعين، وهما الأمران الأصعب تحقيقهما في الوقت نفسه في مثل الأزمة الراهنة التي تواجهها المؤسستتان النقدية والمالية في الولايات المتحدة.
أجمع كثير من الاقتصاديين على أن الأزمة الراهنة التي بدأت تلوح مؤشراتها في الأفق القريب، تختلف كثيرا عما سبق من أزمات اقتصادية ومالية طوال العقود الزمنية الأربعة الماضية، كونها قد جاءت على مستويات عالية جدا من المديونيات على كاهل كل من الحكومة الأمريكية والشركات والبنوك والأسر، حاملة في أحشائها بقايا وتبعات كل من الأزمة المالية العالمية 2008، والجائحة العالمية لكوفيد - 19، لترتص بوزنها الثقيل أمام تحديات جسيمة تواجهها الإدارة الأمريكية داخل البلاد وخارجها، بدءا من الاضطرابات الجيوسياسية في شرق أوروبا "روسيا وأوكرانيا"، وفي شرق آسيا "الصين وتايوان"، مرورا بالصراع التجاري طويل الأجل مع الصين، وما يتخلل تلك الاضطرابات والتحديات من مصادر عدم استقرار في كثير من الملفات الأمريكية في مختلف بقاع العالم. كتب نورييل روبيني أمام هذا المشهد الساخن، "يتعرض الاقتصاد العالمي للضرب بسبب صدمات العرض السلبية المستمرة على المديين القصير والمتوسط التي تقلل من النمو وتزيد من الأسعار وتكاليف الإنتاج. وتشمل هذه اضطرابات الوباء في المعروض من العمالة والسلع، وتأثير حرب روسيا في أوكرانيا في أسعار السلع الأساسية، وسياسة الصين الكارثية المتزايدة الخالية من فيروس كورونا، وعشرات الصدمات الأخرى على المدى المتوسط ـ من تغير المناخ إلى التطورات الجيوسياسية ـ التي ستوجد ضغوطا ركودية إضافية. على عكس الأزمة المالية لـ2008 والأشهر الأولى من كوفيد - 19، فإن مجرد إنقاذ الوكلاء الخاصين والعامين بسياسات كلية فضفاضة من شأنه أن يصب مزيدا من البنزين على النار التضخمية. هذا يعني أنه سيكون هناك هبوط حاد -ركود عميق وطيد- إضافة إلى أزمة مالية حادة. مع انفجار فقاعات الأصول، وارتفاع نسب خدمة الديون، وانخفاض الدخل المعدل حسب التضخم عبر الأسر والشركات والحكومات، ستتغذى الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي على بعضهما بعضا".
أمام هذه الاضطرابات أمريكية "المنشأ"، دون المفكر الاقتصادي محمد العريان رؤيته القائلة، إن العالم يتجه إلى الانتقال من "العولمة الموحدة" التي سادت الاقتصاد العالمي طوال أكثر من ثلاثة عقود زمنية، إلى نمط متعدد الأقطاب يقوم على "العولمة المفتتة"، مبينا "سيؤثر ذلك الخليط من الصدمات الجيوسياسية، واستراتيجيات الشركات، والقيم الاجتماعية المتغيرة، في أنماط التجارة والاستثمار على طول أربعة محاور رئيسة. مع حرص الشركات على اختيار المرونة قبل الكفاءة، فستعمل بشكل متزايد على تحويل نهجها في إدارة سلاسل التوريد من "حسب الحاجة" إلى "على سبيل الاحتياط". وسيأتي هذا في وقت حيث تكتسب المخاوف الأمنية قدرا أعظم من الثقل في الاعتبارات التجارية، وستبتعد الشركات عن تقاسم المخاطر والشراكات العامة إلى ترتيبات أضيق تصميما. من ناحية أخرى، سيبحث المستهلكون على نحو متزايد عن التأكيد على الغرض في تفاعلاتهم التجارية".
وفقا لما تقدم، قد يجد أطراف الاقتصاد العالمي الأكثر تأثيرا أنفسهم أمام خيارات تقتضي الانفكاك من وحل النهاية التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي، وهو أمر أصبح أكثر احتمالا وقدرة لدى تلك الأطراف، ولا يمتلك أي طرف في الوقت الراهن صورة واضحة المعالم عن المقبل، بقدر ما أن الأمر الأكثر وضوحا يتمثل في توافر القدرة والموارد اللازمة لدى الأطراف الصاعدة اقتصاديا وماليا على الانفكاك والاستقلال بدرجات أكبر عما تتفجر أزماته فترة بعد فترة في كل من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو.