أسواق النفط بعد تخفيضات «أوبك +» الطوعية

في الأشهر الأخيرة أصبحت أسواق النفط حساسة بشكل متزايد للأحداث الجيوسياسية، مع ظهور ارتفاعات كبيرة في الأسعار حتى مع خفض طفيف نسبيا في الإنتاج، خصوصا إذا كان ذلك متزامنا مع توترات جيوسياسية.
قبل أسبوعين، كان التنبؤ بمستوى أسعار النفط لستة أشهر أو لنهاية العام أمرا سهلا نسبيا. إذا لم يحدث تباطؤ عالمي، فستكون الأسعار أعلى. هناك عاملان لهذا الإجماع، أولا، أنهت الصين العام الماضي سياسة صفر-كوفيد التي كانت تعمل على خفض الطلب على النفط. ثانيا، المعروض العالمي من النفط الخام شحيح ومن المتوقع أن يتقلص أكثر مع مرور العام.
ثم جاء إعلان "أوبك +" بخفض طوعي للإنتاج، الذي وصفته المملكة بأنه "إجراء احترازي" يهدف إلى إعادة توازن السوق ودعم استقرار أمن الطاقة. هذا الإعلان حالة من عدم اليقين على جميع التوقعات السابقة. كان رد فعل السوق في الأيام التي أعقبت هذا الإعلان يشبه إلى حد كبير رد فعلها في الأيام الأولى التي أعقبت بداية الأزمة الأوكرانية. وسارع الجميع إلى تحديث توقعات أسعار النفط. على سبيل المثال، قام بنك جولدمان ساكس بتعديل توقعاته لخام برنت لنهاية العام من 90 إلى 95 دولارا للبرميل.
بالفعل، أدى إعلان عدد من دول "أوبك +" خفضا طوعيا للإنتاج قدره 1.66 مليون برميل يوميا إلى زيادة حادة في الأسعار في بداية جلسة تداول الإثنين الماضي، حيث ارتفع سعر برنت إلى 85.5 دولار وغرب تكساس الوسيط إلى 81 دولارا للبرميل. لكن، هذا الاتجاه الصعودي الحاد لم يستمر بالزخم نفسه. حيث، أظهرت بيانات سوق العمل الأمريكية تباطؤ النمو الاقتصادي، وشهد قطاع الخدمات الأمريكي نموا أبطأ من المتوقع. في حين، ظل الطلب في فرنسا ضعيفا بسبب الإضراب.
ومع ذلك، لم يحدث انخفاض يذكر في الأسعار بعد الارتفاع الحاد، حيث إن انخفاض مخزونات الخام الأمريكية أكبر من المتوقع للأسبوع الثاني على التوالي، وتفاؤل المستثمرين بشأن توقعات الطلب على السلع الأساسية في الصين دعم أسعار النفط. أغلق خام برنت الأسبوع الماضي عند 85.12 دولار للبرميل وخام غرب تكساس الوسيط عند 80.70 دولار للبرميل، لتبدأ الأسواق في عطلة نهاية أسبوع طويلة.
من جهة أخرى، الانخفاض الأخير في أسعار خام غرب تكساس الوسيط إلى أقل من 70 دولارا للبرميل لم يؤد إلى بدء تجديد الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي. في هذا الجانب، قالت وزيرة الطاقة الأمريكية، قد يبدأ ملء مرافق التخزين في الربع الأخير من 2023 - شريطة انخفاض الأسعار إلى المستوى المستهدف. على الأرجح، أسهم هذا القرار في إعلان "أوبك +" خفضا طوعيا للإنتاج.
من ناحية العرض، بلغ إنتاج النفط الروسي في شباط (فبراير) 9.8 مليون برميل يوميا، بتراجع 2.5 في المائة على أساس سنوي. حيث إن فرض الحظر في كانون الأول (ديسمبر) وشباط (فبراير) لم يؤد إلى التخفيض المتوقع في إنتاج النفط الروسي. أسهم هذا أيضا في قرار "أوبك +" الأخير.
من ناحية الطلب، تتوقع شركة البترول الوطنية الصينية (أكبر منتج للنفط في الصين) أن ينمو الطلب على النفط في الصين في 2023 بـ5.1 في المائة على أساس سنوي إلى 756 مليون طن بسبب رفع قيود الحجر الصحي.
لكن، الضعف الموسمي في الطلب لا يزال قائما، والإمدادات أصبحت أكثر تشددا، ما يدعم أسعار النفط. مع بداية الربع الثاني سيزداد تشدد أسواق النفط، حيث سيبدأ الطلب في النمو تزامنا مع بداية موسم التنقل في نصف الكرة الشمالي. من المتوقع حدوث انتعاش كامل في الطلب وتزايد ديناميكيات ارتفاع الأسعار في النصف الثاني من العام.
أسواق النفط الآن تحت تأثير عاملين. الأول، المخاوف من حدوث ركود عالمي ستؤدي إلى انخفاض حاد في الاستهلاك، وتضغط على الأسعار. الثاني، التوقعات بزيادة وتيرة تعافي الاقتصاد الصيني، التي ستزيد الاستهلاك، وبالتالي تساعد على رفع الأسعار.
في ضوء هذه المعطيات، جاء إعلان "أوبك +" خفضا طوعيا للإنتاج استجابة لمشكلات القطاع المصرفي التي ظهرت في أوائل آذار (مارس) في الولايات المتحدة وأوروبا. أثار إفلاس عديد من البنوك مخاوف من أن تبدأ الأزمة المالية والتباطؤ في الاقتصاد العالمي في أي لحظة. أدى هذا الوضع إلى انخفاض حاد في أسعار النفط.
حتى الآن لا يزال الوضع الجيوسياسي متوترا، والمشكلات الاقتصادية تتزايد كل يوم. بالفعل الثلاثاء الماضي، أظهرت بيانات الوظائف الشاغرة في الولايات المتحدة أن الاقتصاد الأمريكي بدأ في التباطؤ، ما يعني أن الاحتياطي الفيدرالي قد ينهي دورة رفع أسعار الفائدة قريبا. كما كان رد فعل الدولار الأمريكي هو الانخفاض مقابل سلة من العملات العالمية. بعد نشر هذه الأخبار توقفت الأسعار من الارتفاع الحاد. وهذا تأكيد آخر على أن الخوف من الركود يؤثر بشدة في أسعار النفط. من الصعب الآن إجراء أي تنبؤات بشأن مزيد من حركة أسعار النفط.
في الولايات المتحدة، أظهرت المراجعة الأسبوعية الأخيرة لبيانات البطالة ارتفاع عدد مطالبات البطالة عما كان متوقعا في السابق، كما أن النمو في قطاع الخدمات مخيب للآمال. أدت هذه التطورات السلبية إلى وضع حد أقصى لأسعار النفط، وبعد الإثنين لم تتغير الأسعار كثيرا، على الرغم من الدعم الإضافي من انخفاض مخزونات النفط الأمريكية. بعد كل ذلك، ستكون إجراءات "أوبك +" مبررة تماما، وستعتمد الحركة الإضافية للأسعار على القرارات الجديدة للمجموعة.
في الواقع، قد يكون الزخم الصعودي لسوق النفط قد توقف مؤقتا، لكن لا تزال هناك احتمالية في الاتجاه الصعودي نظرا إلى تقلص العرض. يمكن أن يتعزز هذا الاتجاه أكثر، مع إعلان المملكة ثقتها بأن الطلب سيظل مرنا على الرغم من مخاوف النمو الاقتصادي من خلال رفع أسعار البيع الرسمية للمشترين الآسيويين. من الصعب رؤية هذا على أنه أي شيء آخر غير علامة على الاقتناع بأن الطلب في المنطقة الذي ينظر إليها على أنها تقود نمو الطلب العالمي على النفط سيستمر في التوسع.
لكن، إذا كان الاقتصاديون الذين حذروا من أزمة عالمية تلوح في الأفق على حق، فقد تتزعزع هذه القناعة في الأشهر المقبلة، وقد تنخفض الأسعار بدلا من الارتفاع أكثر، على الرغم من المشاعر الصعودية السائدة بين المحللين ومراقبي الصناعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي