وضع الاقتصاد الأمريكي يربك الخبراء .. الثقة الشعبية تتلاشى مع القلق من فقدان النفوذ

وضع الاقتصاد الأمريكي يربك الخبراء .. الثقة الشعبية تتلاشى مع القلق من فقدان النفوذ
وضع الاقتصاد الأمريكي يربك الخبراء .. الثقة الشعبية تتلاشى مع القلق من فقدان النفوذ

لا شك أن تراجع معدل التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية إلى مستوى 4.9 في المائة في شهر أبريل الماضي، خبر سار للعائلات الأمريكية، ولإدارة الرئيس جو بايدن.
التضخم الذي مثل صداعا للإدارة الأمريكية بعد أن بلغ أعلى مستوى له في 40 عاما عندما وصل إلى 9.1 في المائة في يونيو الماضي، يواصل الآن الانخفاض للشهر العاشر على التوالي.
الجانب الآخر السار بالنسبة إلى الولايات المتحدة بشأن التضخم، أن معدل ارتفاع الأسعار في أمريكا أقل بشكل ملحوظ مما هو عليه في البلدان الأخرى، ففي المملكة المتحدة بلغ 10.1 في المائة في مارس الماضي، بينما بلغ في منطقة اليورو 6.9 في المائة.
الأمر لم يقف عند تلك الأنباء الطيبة للاقتصاد الأمريكي، فقد زادت عملية التوظيف في شهر أبريل، وأضاف الاقتصاد الوطني 1.2 مليون وظيفة خلال عام، ومعدل البطالة عند أدنى مستوى له منذ عام 1969، على الرغم من إفلاس عدد من البنوك الأمريكية أهمها بنك سيلكون فالي الذي يرتبط به عديد من شركات التكنولوجيا، فإن قطاع التقنيات الحديثة لا يزال يقوم بكثير من عمليات التوظيف خاصة في مجال تصميم أنظمة الكمبيوتر.
كما أن قطاع البناء يواصل استقطاب مزيد من الأيدي العاملة، ووفقا للإحصاءات الرسمية بلغ عدد العاملين في هذا القطاع في شهر أبريل نحو ثمانية ملايين عامل.
تلك الأنباء تمثل لعدد من الخبراء بادرة جيدة بأن الاقتصاد الأمريكي يسير في المسار الصحيح.
ويرى أندريه كريس المحلل المالي في بنك إنجلترا أن سياسات الاحتياطي الفيدرالي تؤتي أكلها.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن تبني الفيدرالي الأمريكي سياسة رفع أسعار الفائدة لاستعادة الاستقرار في الأسعار وتحقيق التوازن في سوق العمل، والآن الطلب على التعيينات الجديدة يتجاوز المعروض من العمال المتاحين في السوق، وكان انخفاض معدلات البطالة واحد من الأسباب التي أدت إلى ارتفاع التضخم، ومواصلة الفيدرالي الأمريكي سياسة رفع الفائدة، سيؤدي إلى زيادة البطالة في وقت لاحق، لكن في الوقت ذاته سيحد من التضخم ويسهم في إيجاد اقتصاد أكثر استقرارا وأكثر قدرة على النمو، ما سيساعد على توفير مزيد من فرص العمل مستقبلا".
لكن هذا النمط من التحليل لا يمنع الدكتور جورج هيدكوت أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة أدنبرة من القول "إن وضع الاقتصاد الأمريكي أربك كثيرا من الخبراء مرارا وتكرار في الأعوام الأخيرة، ولم يتوقع أحد بمن فيهم الخبراء والمسؤولون في الفيدرالي الأمريكي أن يرتفع التضخم كثيرا وأن تقفز الأسعار بسرعة أو ترتفع أسعار الفائدة بتلك الحدة". ويتساءل "هل تغير شيء في جوهر الاقتصاد الأمريكي ما أدى إلى ارتباك المشهد؟".
الدكتور جورج هيدكوت يرصد ما يرى أنه عامل مهم استجد على الاقتصاد الأمريكي ويستدعي من وجهة نظره وقفة جادة لمعرفة إلى أين يسير أكبر اقتصاد في العالم مستقبلا.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "اعتمد النمو الاقتصادي الأمريكي دائما على توريد السلع والخدمات نتيجة ما يتمتع به من قوة سواء في توافر رؤوس الأموال أو الأيدي العاملة الماهرة أو التكنولوجيا المتقدمة، لكن تلك العوامل تنسحب تدريجيا من الولايات المتحدة في اتجاه الصين وبلدان شرق وجنوب شرق آسيا. الآن ومستقبلا سيعتمد النمو الاقتصادي الأمريكي أكثر على الطلب الداخلي من الأسر والشركات والحكومات المختلفة في الولايات الأمريكية الـ50 والأجانب والمهاجرين المقيمين في الولايات المتحدة. هذا الطلب عندما يكون قويا سيرفع حتما معدل التضخم في الداخل".
لا تنفي الأغلبية العظمى من الخبراء أهمية هذا التغير وتأثيره في المسار التقليدي للاقتصاد الأمريكي، لكنهم يرجحون أن الاقتصاد الأمريكي قد أفلح في المرحلة الراهنة في تجنب الركود الاقتصادي هذا العام. وقد أعرب المحللون في بنك جولدمان ساكس عن اعتقادهم أن احتمالات تعرض الاقتصاد الأمريكي للركود لا تتجاوز حاليا 35 في المائة، وعلى الرغم من أن تلك التقديرات تظل مرتفعة إلا أنها تظل أقل من نسب سابقة تجاوزت 50 في المائة. ويصبح التساؤل: كيف يقيم المستثمرون الوضعية الراهنة للاقتصاد الأمريكي.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" الخبير الاستثماري إل. دي فيبر، "أغلب أنظار رجال الأعمال تتجه إلى مرحلة ما بعد الدورة الاقتصادية الحالية، وسواء كان الركود الاقتصادي محتمل الحدوث، أو أن يكون منخفض التأثير في حال وقوعه، فإن الأمر الأكثر أهمية أن يتراجع معدل التضخم، وتنخفض الأجور النسبية ما يساعد على استقرار هوامش ربح الشركات".
ويضيف "بحلول العام المقبل يتوقع أن يعود الاقتصاد الأمريكي إلى مسار مشابه إلى حد كبير لمسار أواخر عام 2010 حيث كان النمو الاقتصادي بطيئا والتضخم منخفضا وأسعار الفائدة معتدلة والشركات تتمتع بهوامش ربح قوية، ربما لا يمثل ذلك وضعا مثيرا للطبقة العاملة والمستهلك العادي، إلا أنه بيئة جاذبة للاستثمارات وإيجابية للغاية للأسواق المالية".
لكن النظرة المستقبلية الإيجابية من قبل المستثمرين للاقتصاد الأمريكي، تصطدم بنظرة سلبية لدى قطاع كبير من أبناء الشعب الأمريكي حول مستقبل بلدهم على الأصعدة كافة خاصة الصعيد الاقتصادي. فالولايات المتحدة تشهد جدلا سياسيا يتعلق بتنامي القناعات لدى قطاع واسع من المواطنين بأن بلدهم سيكون أقل أهمية خلال الـ30 عاما المقبلة، وأن دورها العالمي يتراجع ونفوذها يتقلص لمصلحة الصين.
وتشير التقديرات إلى أن 54 في المائة من الشعب الأمريكي يتوقع أن الاقتصاد الوطني سيكون أضعف بحلول عام 2050 مقارنة بما هو عليه الآن، بينما يعتقد 38 في المائة فقط أنه سيكون أقوى.
وتمتد النظرة المتشائمة من قبل الجمهور إلى المسار المستقبلي للدين القومي، حيث يتوقع نحو 63 في المائة أن الدين الوطني سيزداد، ويصل الأمر إلى ما يشبه إقرار جميع فئات المجتمع الأمريكي بأن حجم الطبقة الدنيا سيزداد كنسبة من إجمالي السكان، وأن مستوى معيشة العائلات وكبار السن سيكون أسوأ في منتصف القرن مقارنة بما هو عليه الوضع الآن.
تلك النظرة تجاه مستقبل الاقتصاد الأمريكي تعني في حقيقة الأمر وجود عقبات تتجاوز في خطورتها الخلل الذي قد يظهر هنا أو هناك في السياسات أو التشريعات الاقتصادية التي تنظم العمل الاقتصادي أو الاستثماري.
فتلك الاختلالات يمكن التعامل معها أو إلغاؤها أو تطويرها وفي كثير من الأحيان يمكن للحيل البيروقراطية أن تتغلب عليها أو تسد جوانب القصور فيها، بينما تظل القناعات المجتمعية من الصعوبة بمكان عندما يتم التعامل معها وتغيرها خلال فترات زمنية قصيرة.
ويرى عديد من الخبراء أن هناك حاجة ماسة إلى إعادة الثقة إلى المستهلك الأمريكي تجاه المستقبل الاقتصادي لبلاده، فارتفاع معدلات التضخم أو انخفاضها وزيادة أسعار الفائدة أو تراجعها وتقلص نسب البطالة أو تفاقمها، جميعها تدخل ضمن الدورات الاقتصادية المعتادة التي قد تطول أو تقصر، لكن الثقة الشعبية تدخل في صلب المنظومة الاقتصادية وتحدد الإطار العام لقدرتها على مواجهة التحديات المستقبلية، وتظل حجر الأساس الذي يضمن للنظام الاقتصادي برمته تحقيق قدر أكبر من النمو المستدام على الأجل الطويل.

الأكثر قراءة