السياسة الصناعية الغربية والقانون الدولي «2 من 2»
لنتأمل هنا قومية اللقاحات التي رأيناها أثناء الجائحة، عندما كدست الدول الغربية الغنية اللقاحات واستأثرت بالملكية الفكرية لتصنيعها، مفضلة بذلك تعزيز أرباح شركات الأدوية على احتياجات مليارات البشر في الدول النامية والأسواق الناشئة. ثم جاءت الحرب الروسية - الأوكرانية التي أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بشدة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا وأماكن أخرى، دون أي مساعدة تقريبا من الغرب.
ما زاد الطين بلة أن الولايات المتحدة رفعت أسعار الفائدة، فتعززت بذلك قيمة الدولار مقابل العملات الأخرى وتفاقمت أزمات الديون في مختلف أنحاء العالم النامي. مرة أخرى، لم يقدم الغرب إلا قليلا من المساعدة الحقيقية -مجرد كلمات. رغم موافقة مجموعة العشرين في السابق على إطار لتعليق خدمة الديون من جانب الدول الأكثر فقرا في العالم مؤقتا، فإن المطلوب حقا هو إعادة هيكلة الديون.
على هذه الخلفية، ربما يعمل قانون خفض التضخم وقانون الرقائق والعلوم على تعزيز فكرة مفادها بأن العالم النامي خاضع لمعايير مزدوجة، أي إن سيادة القانون لا تطبق إلا على الفقراء والضعفاء، في حين يستطيع الأثرياء والأقوياء أن يفعلوا ما يحلو لهم. لعقود من الزمن، ظلت الدول النامية تعاني وتتألم بسبب القواعد العالمية التي منعتها من دعم صناعاتها الوليدة، على أساس أن القيام بذلك من شأنه أن يقوض تكافؤ الفرص. لكنها كانت تعلم دوما أن تكافؤ الفرص وهم لا وجود له. كان الغرب يستأثر بكل المعرفة والملكية الفكرية، ولم يتردد في اكتناز أكبر قدر ممكن منها.
الآن، أصبحت الولايات المتحدة أكثر صراحة فيما يتصل بتقويض تكافؤ الفرص، وتسير أوروبا على خطاها. رغم ادعاء إدارة بايدن أنها تظل ملتزمة بمنظمة التجارة العالمية "والقيم المشتركة التي تقوم عليها: المنافسة العادلة، والانفتاح، والشفافية، وسيادة القانون"، فإن كل هذا لا يعدو كونه حديثا أجوف. فحتى وقتنا هذا ما زالت الولايات المتحدة لا تسمح بتعيين قضاة جدد في هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية، فتضمن بهذا عجز هيئة تسوية المنازعات عن اتخاذ أي إجراء ضد انتهاكات قواعد التجارة الدولية.
من المؤكد أن منظمة التجارة العالمية تعاني وفرة من المشكلات: وقد نبهت شخصيا إلى عدد كبير منها على مر السنين. لكن الولايات المتحدة هي التي بذلت قصارى جهدها لصياغة القواعد الحالية خلال ذروة النيوليبرالية. كيف للدولة التي كتبت القواعد أن تدير لها ظهرها عندما يكون مريحا لها أن تفعل ذلك؟ أي نوع من "سيادة القانون" هذا؟ لو كانت الدول النامية والأسواق الناشئة تجاهلت قواعد الملكية الفكرية بطريقة فاضحة مماثلة، لكانت عشرات الآلاف من الأرواح أنقذت أثناء الجائحة. لكنها لم تتجاوز ذلك الخط، لأنها تعلمت الخوف من العواقب.
من خلال تبني السياسات الصناعية، تعترف الولايات المتحدة وأوروبا علانية بضرورة إعادة كتابة القواعد. لكن هذا سيستغرق وقتا طويلا. لضمان عدم تفاقم مشاعر السخط والمرارة "على نحو مبرر" في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل إلى أن يحدث ذلك، ينبغي للحكومات الغربية أن تعمل على إنشاء صندوق تكنولوجي لمساعدة الآخرين على مواءمة الإنفاق في الداخل. هذا من شأنه أن يحقق تكافؤ الفرص إلى حد ما على الأقل، ويعزز ذلك النوع من التضامن العالمي الذي نحتاج إليه في التصدي لأزمة تغير المناخ وغير ذلك من التحديات العالمية.
خاص بـ «الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2023.