القوى العظمى تتخلى عن التجارة الحرة «3 من 3»

وإذا ما انتهجت الولايات المتحدة والصين استراتيجية جديدة قائمة على سياسة موازين القوى، سيسعى كلا البلدين إلى تعزيز قوتهما من خلال المطالبة بإقامة تحالفات واضحة. فبالنسبة للقوى العظمى التنافسية، يعني مزيد من "الحلفاء" قوة أكثر مصداقية في شن التهديدات "الاقتصادية أو العسكرية" وفرصة أكبر لتحقيق التأثير الردعي المرجو. لكن بالنسبة لجميع الدول الأخرى، فإن الحسابات مختلفة.
وقد تجد بعض الدول مميزات في التحالف مع جانب دون الآخر. فإبان الحرب الباردة، تحالفت دول أوروبا الغربية مع الولايات المتحدة، واستفادت من النظام المفتوح القائم على القواعد الذي أتاح إعادة الإعمار والنمو والديمقراطية في أعقاب الحرب. لكن الحرب الباردة خلفت تداعيات أخرى في عديد من الدول التي كانت قد تحررت من الاستعمار وتلقت نظمها الفاسدة والقمعية الدعم من جانب الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي.
وبالنسبة لبعض الدول، سيكون من الأوقع اللجوء إلى خيار عدم الانحياز لتعزيز التجارة والاستثمارات وعمليات الإنتاج الإقليمية ـ بعيدا عن القوى العظمى. وكما جاء في تصريحات أحد وزراء سنغافورة، "فإن التحالف مع جانب دون الآخر سيفرض اضطرابات حادة على أوضاعنا الأمنية أو الاقتصادية".
وبالنسبة للاقتصادات النامية، فإن عدم اليقين بشأن النظام التجاري العالمي يعني أن معظم هذه الدول سترغب في إجراء مفاوضات حول التجارة والاستثمار والمساعدات وشراء الأسلحة والأمن مع عدة مصادر. ولا تزال الهند وبعض الدول الإفريقية وغيرها تعتمد اعتمادا شديدا على الأسلحة الروسية. وتعتمد دول أخرى على الطاقة والغذاء والأسمدة من روسيا، ما سيكلفها كثيرا إذا ما شاركت في فرض العقوبات على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا. كذلك تعتمد دول عديدة اعتمادا كبيرا على المساعدات والتجارة والاستثمارات الصينية، وتلجأ حاليا إلى الصين للحصول على قروض لإنقاذ أوضاعها المالية، كما تحتاج إلى الأسواق في أوروبا وأمريكا الشمالية.
وعدم الانحياز قد يسمح للدول بمواجهة الصعوبات الاقتصادية الحادة لتحقيق مصلحة شعوبها والتعبير عن قيمها وأولوياتها في سياق العلاقات الدولية. فقد رفضت سنغافورة غير المنحازة تأييد الاحتلال الإندونيسي لتيمور الشرقية 1975، كما عارضت الاحتلال الأمريكي لجرينادا 1983، وتعارض في الوقت الحالي التدخل الروسي الجاري في أوكرانيا.
كذلك فإن الاستمرار في عدم الانحياز سيجعل الدول قادرة على استخدام أصواتها الجماعية في حث القوى العظمى العالمية على استخدام "أو استحداث" إجراءات ومؤسسات متعددة الأطراف لمساعدة العالم على مواجهة الأولويات الجديدة. ولن يمنح ذلك الاقتصادات الأصغر حجما والنامية الفرصة للتعبير عن آرائها فحسب، بل سيثني الدول الأكثر قوة عن اتخاذ إجراءات مدمرة ربما تطول الدول الأصغر حجما.
وتعكف القوى العظمى حاليا على وضع أولوياتها الجديدة وتنفيذها من طرف واحد. وإذا ما ازدادت حرصا مع الوقت على موازنة مصالحها السياسية والاقتصادية دون أن تعبأ بالمصالح المشتركة على المدى الأطول، بما في ذلك مصلحة الدول الأخرى، فإن على هذه الدول تذكير القوى العظمى بأن تأييدها مرهون بإشراكها في مختلف العمليات والآليات.
وفي الوقت الحالي، تشوب ميزان القوى العالمية حالة من عدم الاستقرار، والصورة غير واضحة حول مآل العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في المستقبل. فالمنافسة محتدمة بينهما، لكن سطوتهما على التجارة العالمية لا تؤثر في قوة إحداهما مقابل الأخرى فحسب، بل في مستقبل الدول كافة أيضا. وفي الوقت نفسه، ينبغي لباقي العالم الاستعداد بقياس درجة الاعتماد على الذات واللجوء إلى عدم الانحياز للتأكد أن العلاقات بين هاتين القوتين العظميين لن تهدد جميع الدول الأخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي