مكامن القوة في إدارة الحشود
تعرف الحشود عموما بأنها تجمع لأعداد كبيرة من الأشخاص في مكان معين، سواء كان هذا التجمع لأغراض سلمية أو غير سلمية، وقد يكون هذا التجمع لأسباب متعددة ومختلفة وبشكل مؤقت أو دائم من ذلك -على سبيل المثال- ما يتم في المناسبات الخاصة، مثل التجمعات لاحتفالية خاصة أو للمشاركات في فعاليات ثقافية عامة أو في الملاعب الرياضية أو في الأماكن السياحية وغيرها. ولهذه الحشود عموما أهداف معلومة أو غير معلومة في بعض الأحيان، وهي في الأغلب متنوعة التكوين، حيث تشمل فئات مختلفة من الأعمار والجنسيات والخلفيات الثقافية والتعليمية، وتتسم بالديناميكية والتأثير الجماعي، حيث يمكن للأفراد داخل الحشود أن يتأثروا ببعضهم بعضا ويشعروا بانتماء جماعي وتضامن. من هنا قد يكون لهذه الحشود وجهان من القوة إما قوة إيجابية أو قد تتحول إلى قوة سلبية عندما يصاحبها عنف وتوتر واضطراب في داخلها، لذا تكمن أهمية وضرورة إدارتها الإدارة السليمة والحكيمة في الوقت نفسه، حيث تعد إدارة الحشود من الأمور المهمة جدا للحفاظ على الأمن والسلامة سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات. وهنا سأتحدث عن هذه الإدارة ومكامن القوة في تنظيمها، مع إعطاء بعض الأمثلة لذلك.
إدارة الحشود هي علم يتعلق بتنظيم الحشود بطريقة آمنة وفاعلة، وربط وتكامل الجهات المعنية ببعضها بعضا، ويشمل ذلك التخطيط والتنسيق والتنظيم والتحكم في الحركة والسلوك لهذه الحشود مع اختلاف أطيافها وتنوع أشكالها، وهي تنتج عندما يجتمع عديد من الناس في مكان واحد ويتحركون في اتجاه واحد بسبب حدث ما، ويمكن أن تتسبب في حوادث مؤلمة، مثل: الاختناقات والتدافعات والإصابات والوفيات. لذا فإن من أهداف إدارتها الرئيسة ضمان عدم حدوث مثل تلك المخاطر أو التقليل من نسبة خطورتها، وهي تشمل عديدا من الجوانب، بما في ذلك التخطيط السليم وتحديد المساحة المناسبة لاستيعاب الأعداد المتوقعة وتوفير المسارات والممرات اللازمة لتدفقها، والتوجيه المتقن لتجنب الازدحام والتكدس، ومراعاة الأمن والسلامة، بتوفير التدابير اللازمة للأمان والسلامة من وجود فرق أمنية ومراقبة مستمرة، وخدمات الإسعافات الأولية، وتنفيذ إجراءات التعامل مع حالات الطوارئ، وتشمل هذه الإدارة أيضا توفير وسائل التواصل الفاعلة للتواصل مع الجمهور وتوفير المعلومات الضرورية لهم. إن استخدام التقنيات والأساليب المبتكرة في إدارة وتنظيم الحشود يعد من مكامن القوة، حيث يضيف ويعزز من الأمن والسلامة وتلافي المخاطر في مثل هذه الظروف، سواء قبل أو أثناء الحشد. ومن هذه التقنيات الحديثة، الذكاء الاصطناعي بأنواعه المختلفة، والتحليل الضوئي من خلال كاميرات المراقبة والاستشعار لتحليل حركة الحشود وكثافتها والتنبؤ بالأماكن التي قد تشهد تكدسا أو ازدحاما. وتساعد هذه المعلومات على اتخاذ القرارات الاستراتيجية لتوجيه الحشود وتخفيف الازدحام، وتقنيات الاتصالات اللاسلكية والتطبيقات المتنقلة، حيث يمكن استخدام التطبيقات المتنقلة وتقنيات الاتصالات اللاسلكية لتوفير معلومات مهمة للحشود، مثل توجيهات الطريق وتحديثات الأمان. ومن بين التقنيات المبتكرة أيضا، تطبيقات الهواتف الذكية وأنظمة التوجيه المبنية على الواقع المعزز التي تستخدم البيانات الجغرافية والمعلومات المتاحة، وكذلك تقنيات الروبوتات والطائرات دون طيار، التي جميعها تساعد على توفير معلومات وصور شاملة لتلك الحشود وتساعد على عمليات التنسيق المتكامل مع الجهات التي تعمل على إدارتها، لتوجيهها وتسهيل تدفقها بطرق أكثر أمنا وأكثر فاعلية.
ومن خلال بحثي في هذا الجانب لم أجد أفضل من مثال إدارة الحشود السعودية خصوصا في فترة الحج، وما تقوم به في هذا الشأن رغم التحديات الكبيرة والحساسة التي تواجهها في تنظيم مشاعر الحج في الأماكن المقدسة، حيث تكمن هذه التحديات في الأعداد المليونية للحشود والمساحة والوقت المحدودين، حيث يتوافد الملايين من الحجاج من مختلف أنحاء العالم في فترة محدودة لأداء نسك الحج وفي أماكن محددة، أضف إلى ذلك اختلاف الثقافات واللغات والجنسيات، وبالتالي تصبح إدارة هذه الحشود أمرا بالغ الصعوبة والأهمية، إلا أن الإدارة السعودية للحشود التي نفخر بها أصبحت نموذجا يتحدث به على مستوى دول العالم، بل يقتدى به كتجربة فوق العادة لكثير من الدول، حيث شملت مكامن قوتها على استراتيجيات عدة شملت، التخطيط المتقن للمساحات المحدود في المشاعر المقدسة، حيث حددت المسارات والمناطق المخصصة للصلوات والطواف ورمي الجمرات وغيرها، لتجنب الازدحام والتكدس، وتحقيق أعلى مستويات الأمن والسلامة، وشملت الاستراتيجيات أيضا وضع التدابير الأمنية الصارمة لضمان سلامة الحجاج، ومنع أي حوادث أو أعمال تخريبية. كما شملت أيضا الخدمات اللوجستية بجميع أنواعها، مثل: الإسكان والطعام والرعاية الصحية، وشملت أيضا الإبداع في التنسيق والتكامل مع جميع الجهات سواء كانت حكومية أو غير الحكومية والمتعاونين من الداخل أو الخارج، فهي إدارة رائدة بكل المقاييس ذات خطط واستراتيجيات تنفيذية محكمة وهائلة أثبتت تفوقها على جميع الأصعدة، واستخدام عدة تقنيات وأنظمة إلكترونية لإدارة هذه الحشود، لا يسع المقال لحصرها، ومنها -على سبيل المثال- أنظمة المراقبة والكاميرات، وأنظمة تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي، حيث تم استخدام تقنيات التحليل الضخم للبيانات والذكاء الاصطناعي لتحليل النمط الحركي والتنبؤ بتدفق الحشود والتجمعات، والمنصات الإلكترونية، مثل منصة منارة الحرمين، والروبوتات الذكية في ساحات الحرم لتقديم بعض الخدمات مثل التعقيم وتوزيع المياه، وعديد من التطبيقات الإلكترونية مثل تطبيق مناسكنا وتنقل، والأساور والبطاقات الذكية وطائرات الدرونز وغيرها من التطبيقات لتوفير كثير من المعلومات المهمة ذات الفوائد الجمة التي تساعد على إدارة هذه الحشود بكفاءة وسلامة وأمان.
ولكوننا نعيش في عصر التقنيات الابتكارية والتحول الرقمي، فإن استخدام وسائل التقنيات الابتكارية الحديثة وأدوات الذكاء الاصطناعي والتطبيقات والخدمات الإلكترونية المتنوعة، يعد أمرا مهما، ولكون الحشود في الحج وفي مواسم العمرة في رمضان تعد فرصة، أرى أنه يجب استغلالها من خلال مركز لإدارتها بشكل مباشر، ويكون مرتبطا بمركز للبحث والابتكار لتبني الأفكار والإبداع والتقنيات الابتكارية في هذا الجانب، ويعتمد فيه على الكم الهائل من البيانات من ذلك المركز وبمشاركة فاعلة من الجامعات والمراكز البحثية لإثراء هذا الجانب، وبالتالي سنرى مزيدا من اندماج التقنيات الابتكارية والذي سيوجد لنا في المستقبل القريب حجا تدار حشوده بمكامن قوة إلكترونيا تفوق سقف كل التوقعات.