باكستان و70 عاما مفاوضات مع صندوق النقد

منذ أن بدأ أول اتصال بين الحكومة الباكستانية وصندوق النقد الدولي قبل 70 عاما، لجأت إسلام أباد إلى الصندوق 22 مرة طالبة العون والمساعدة والإنقاذ. ولم يكن ذلك سوى انعكاس لأمراضها الاقتصادية المزمنة وما تعانيه من تحديات وانتكاسات بسبب جملة من العوامل الداخلية المتجذرة، مثل غياب الاستقرار السياسي، واختلال الوعاء الضريبي وأسلوب التحصيل، فضلا عن ضغوط مالية فرضتها الكوارث الطبيعية أو تداعيات حروب البلاد مع الهند.
والمعروف أن باكستان انضمت إلى الصندوق في تموز (يوليو) 1950، وكان القرض الأول الذي حصلت عليه في 1958 بمبلغ 25 مليون دولار، ثم راحت مبالغ الاقتراض تتصاعد لأسباب مختلفة حتى وصلت في 2008 في عهد حكومة يوسف رضا جيلاني، إلى 7.6 مليار دولار، علما بأن آخر قرض تلقته من الصندوق كان في 2019 بمبلغ مليار دولار، وكان مشروطا بضرورة إلغاء دعم الطاقة، ورفع تعرفتها، وزيادة الضرائب، وخصخصة الكيانات، وتغيير السياسات المالية للموازنة.
ويتضح لنا من مراجعة تاريخ العلاقة بين الجانبين أنه في كل المرات التي لجأت فيها إسلام أباد إلى الصندوق كملاذ أخير، كان الصندوق يستجيب فيقدم قروضا مالية مشروطة -كالعادة- بتنفيذ حزمة من الإجراءات والتدابير الهادفة إلى معالجة نقاط الضعف الهيكلية وتحسين الانضباط المالي، وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام. لكن يتضح لنا أيضا أن حكومات باكستان نادرا ما امتثلت لتلك الاشتراطات لأسباب داخلية متعلقة بالخوف من فقدان الشعبية، ما جعل صندوق النقد الدولي متشككا بشأن منح قروض جديدة أو الموافقة على إعادة جدولة قروض سابقة، وتسبب في تآكل ثقة الصندوق بالدولة الباكستانية.
ولهذا السبب راحت الحكومات الباكستانية المتعاقبة تبحث عن بديل لقروض ومساعدات الصندق الدولي، فوجدت ضالتها في قروض ومساعدات المؤسسات المالية الإقليمية، مثل صناديق التنمية الخليجية، وبنك التنمية الآسيوي، وبنك التنمية الإسلامي، وبنك التنمية الصيني، فضلا عن قروض ومساعدات ودية من بعض الدول الصديقة. ففي 2018 مثلا، لجأت حكومة رئيس الوزراء المقال عمران خان، إلى السعودية والإمارات والصين للحصول على قروض لتجنب شروط صندوق النقد، وخلال الأشهر الستة الأخيرة من العام الجاري، نجحت إسلام أباد في تأمين قروض من الصناديق المذكورة بلغت حصيلتها أكثر من أربعة مليارات دولار، إضافة إلى أكثر من تسعة مليارات دولار حصلت عليها في شكل إعانات من دول ومنظمات مختلفة من أجل مساعدتها على أعمال الإغاثة من الفيضانات.
ومما لا شك فيه أن توافر تلك الأموال الضخمة، جعلها تتنفس الصعداء وتشعر بشيء من الراحة. غير أن ذلك ليس سوى حل وقتي مؤقت، ولا يمكن اعتباره حلا مستداما لمعالجة التحديات الاقتصادية عميقة الجذور، خصوصا إذا ما عرفنا حجم الأعباء الكبيرة الملقاة على اقتصاد البلاد والناجمة عن تصاعد إجمالي الدين الحكومي، "وصل إلى ما يعادل 18 مليار دولار"، والتردد في خفض الإنفاق، والدعم المقدم للكهرباء "يعد قطاع الكهرباء في باكستان مصدرا رئيسا للضغوط المالية على الدولة، حيث تراكم الدين العام في القطاع من جراء الإعانات والفواتير غير المسددة البالغ قيمتها في نهاية 2022 نحو 15 تريليون دولار"، وفشل الدولة في معالجة عجز الميزانية الناجمة عن الإنفاق الحكومي المفرط، والتزامات الدولة تجاه سداد الديون المستحقة عليها للقطاع الخاص، "تدين باكستان للقطاع الخاص بمبالغ تصل إلى نحو ثمانية مليارات دولار تكون في الغالب من سندات اليوروبوندز Eurobonds وسندات الصكوك العالمية".
يتردد كثيرا في وسائل الإعلام الباكستانية أن البلاد ليست بحاجة إلى مساعدات الغرب ومؤسساته، أو أنها لم تعد تتسول منها كما كانت في عقود ماضية، وأنها تعول الآن بصفة رئيسة في وقوفها اقتصاديا على قدميها على حليفتها الاستراتيجية الكبرى ممثلة في العملاق الصيني، غير أن في هذا الكلام كثيرا من المبالغة والمكابرة والتمنيات.
صحيح أن الصين تعد اليوم داعمة قوية لباكستان لأسباب استراتيجية معروفة، بدليل أن مؤسسات الصين المالية هي صاحبة نسبة كبيرة من القروض التجارية المستحقة على باكستان، لكن الصحيح أيضا هو أن تلك المؤسسات ليست جمعيات خيرية، وإنما كيانات تتوخى في أنشطتها الإقراضية تحقيق الأرباح، فتضع شروطا صارمة وأسعار فائدة مرتفعة وفترات سداد قصيرة. ولعل أوضح مثال على صحة ما نقول هو أن المؤسسات الصينية الدائنة، مثل بنك التنمية الصيني، مددت أخيرا قرضها البالغ 2.2 مليار دولار لباكستان ثلاثة أعوام إضافية، لكنها أضافت على سعر الفائدة المعروض 1.5 نقطة مئوية.
وأخيرا، لسنا بحاجة إلى التذكير بأن أوضاعا اقتصادية ومالية كهذه معطوفة على بيئة محلية ينخرها عدم الاستقرار السياسي والتهرب الضريبي، علاوة على فقدان ثقة صندوق النقد الدولي، تثبط نشاط المستثمرين وتعيق تدفق الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية وتؤثر سلبا في فرص التعاون الدولي مع باكستان، الأمر الذي قد يفضي إلى استفحال الأوضاع في هذا البلد الصديق، ووقوعه في أزمة مالية خطيرة غير مسبوقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي