خطر الحمائية العالمية
لعبت التجارة الدولية دورا حيويا في نمو الدول وتطور الاستثمارات في العالم ووفرت ملايين الوظائف للبشر، كما أسهمت في تحسن مستويات الرخاء والمعيشة للناس والتنافسية بين الشركات من أجل اقتطاع حصة من التجارة الإقليمية أو العالمية، أي من خلال تشارك سلسلة القيمة بين المناطق المختلفة ودمجها مع القدرات البشرية في الصناعة والخدمات والتكنولوجيا، والتي بدورها قلصت من الصراعات بين الأمم من أجل الموارد، بمعنى آخر: كان للتجارة في نظام متعدد الأطراف خلال العقود العشرة الماضية دور كبير في النهضة البشرية وما وصلت إليه في جميع المجالات بما فيها الجوانب العلمية.
شهد العالم هزات اقتصادية ناتجة من أزمات مالية أسهمت في انخفاض الناتج المحلي وفي كبح التجارة، على وجه التحديد، غير أن الخطر الأكثر وضوحا كان ما بعد جائحة كورونا 2020، وما عقبه من أزمة جيوسياسية بين روسيا وأوروبا والولايات المتحدة في ظل ارتفاع شديد في الأسعار عالميا والاختلالات التي طالت سلاسل الإمداد التي تمثل الجهاز العصبي الناقل لتجارة العالم، حيث طرأ أمر لم يكن موجودا وهي الحمائية غير المعلنة في المدخلات الإنتاجية، ولا يزال يتطور إلى مستويات أكثر تعقيدا تجعل التجارة عرضة للاضطرابات.
ما يدعو إلى الدهشة أن الانفتاح بين الدول بسبب السفر لم يتأثر بالتغيرات الطارئة بعد كورونا، أما التجارة فقد تأثرت بشكل واضح، وهذا ما دفع بكثير من الدول النامية إلى تكثيف استثماراتها المحلية في عدد من الصناعات المحلية وفي الزراعة، ثم إن ضغوط الجائحة لا تزال بارزة في القطاع الدوائي وتباطؤ عمليات الإمداد العالمية، وكذلك السلع المعمرة مثل السيارات. التفسيرات الاقتصادية لا تزال غير مؤكدة ولا توجد أدلة كافية، ويمكننا الجزم ببعض تلك الأسباب كنقص الغاز الروسي عن أوروبا، أو أن التحزب الجيوسياسي دليل آخر على دلك التباطؤ في الدواء أو أشباه الموصولات، أو غيرها من مكونات الإنتاج أو الاستهلاك. الشيء المؤكد أن كفاءة التجارة العالمية في تراجع ومؤشرات الحمائية الوطنية أو الإقليمية في تزايد ولو لم يكن معلنا، ومن بين بعض التفسيرات المنطقية أن زيادة الحواجز التجارية سترفع الأسعار على المشترين سواء من الحكومات أو الأفراد.
من بين أهم ما حرص عليه النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية الازدهار عبر التجارة، وبالفعل عاش العالم عصرا ذهبيا وفي معظم الدول التي التزمت بتطوير نظامها الاقتصادي وفق أسس العولمة والاستثمار الأجنبي والإصلاحات الموازية داخليا، ويمكن الاستشهاد بالاقتصادات الناشئة غير الغنية بالموارد.
أخيرا، في غياب التجارة الدولية سنرى الحمائية بين الدول وما يعقبها من حرب في أسعار الصرف، إضافة إلى اختلال ميزاني التجارة والمدفوعات بسبب الأضرار الناجمة عن انغلاق الدول على نفسها اقتصاديا، كما أن التضحية بالتجارة من أجل المكاسب الجيوسياسية تنطوي على مخاطر تجعل العالم يفقد مكاسبه التي حققها خلال عقود طويلة من التجارة.