صناع السياسات والمفاوض الفاعل «2 من 3»
بخصوص تطبيق هذه الدروس على المفاوضات، فإن الإعداد الكافي والمشاورات المحلية عنصر متزايد الأهمية في هذا الصدد. أولا، يجب أن تكون على دراية بماهية القضايا من خلال التحليل الدقيق. والأهم من ذلك أن المشاركة في مشاورات مكثفة مع أصحاب المصلحة المحليين والوكالات المعنية من شأنها أن تساعد على استكشاف البدائل، وتحديد الحلول الوسط، وتعديل الخطوط الحمراء إلى حد ما أثناء المفاوضات. كذلك، تتيح هذه الجهود فرصة أكبر لسلاسة سير عملية التصديق ونجاح التنفيذ مستقبلا، وإن كان ذلك يتطلب كثيرا من الوقت والجهد.
فعلى سبيل المثال، عندما كنت كبير المفاوضين في عمليات إعادة التفاوض بين كوريا والولايات المتحدة، اضطررنا إلى تعليق إحدى جلسات الاستماع العامة، وهي من المتطلبات القانونية للتفاوض حول اتفاقيات التجارة الحرة في كوريا، بسبب الاحتجاجات العارمة من جانب أصحاب المصلحة في قطاع الزراعة. وأجريت عدة لقاءات مع المعارضين لشرح مختلف القضايا والتماس تأييدهم وتفهمهم. وبفضل هذه المناقشات، تمكنا من استئناف جلسة الاستماع العامة بسلاسة، بل نجحنا في تكوين صداقات وثيقة مع بعضهم. وساعدنا ذلك على اختتام المفاوضات والحصول على تصديق الجمعية العامة في غضون عام.
فقد كانت بكين مختلفة آنذاك، حيث بذلت الصين جهودا حثيثة للتعاون مع الدول الأخرى وفتح أسواقها. فعلى سبيل المثال، أبرمت الصين اتفاقية التجارة الحرة مع نيوزيلندا، وكانت أول اتفاقية شاملة وأول اتفاقية تجارة حرة أيضا مع دولة متقدمة 2008.
وتعاونت مع الصين من كثب، وعملت على توسيع نطاق التجارة والاستثمار مع كوريا من خلال المساهمة في إعداد "الدراسة المشتركة لاتفاقية التجارة الحرة بين كوريا والصين". كذلك، نجحت في تكوين صداقات مقربة مع عديد ممن التقيتهم وعملت معهم. ومنذ ذلك الحين، حدث تحول في سياسات الصين، كما تتوالى التغيرات على المشهدين التجاري والاقتصادي أيضا.
فطوال الجزء الأكبر من مسيرتي المهنية كخبير تجاري، عملت من أجل تجارة أكثر حرية وأسواق أكثر انفتاحا، وكان هناك اعتقاد شائع أن ذلك قد يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة التنافسية والابتكار وتحسين مستويات المعيشة.
ولكن أثناء عملي وزيرا للتجارة، شهدت تحولا في المشهد العالمي نحو منهج أكثر تركيزا على الأمن الاقتصادي، وهو ما أطلق عليه البعض التحول من الحوكمة التجارية القائمة على القواعد، إلى "الحوكمة التجارية ذات التوجه الأمني" التي تؤكد أهمية صلابة سلاسل الإمداد واستقرارها وموثوقيتها.
وكانت الحقبة ما بين 2019 و2021 هي بداية هذا التحول في ظل ازدياد أهمية مفهوم الأمن الاقتصادي. وكان علي مواجهة هذه البيئة الصعبة التي كانت لا تزال تشجع على التجارة المنفتحة والحرة، وعلى تعزيز صلابة سلاسل الإمداد في الوقت نفسه.
ورغم جائحة كوفيد - 19، تم التوقيع على "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة" بين 15 دولة عضوا. وكان قد تم إبرام الجانب الأكبر من الاتفاقية قبل الجائحة، لكن الوثيقة لم توقع إلا عقب مفاوضات استمرت عاما واحدا حول القضايا الفنية لسد الفجوات. ونجحنا في إتمام هذه المهمة عبر الواقع الافتراضي، لكن الأمر لم يكن سهلا... يتبع.