عراب الرأسمال البشري
بعد أن أصبح قسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو مركزا أكاديميا متميزا في مدرسة اقتصاد السوق، ظهر أكاديميون في تخصصات فرعية تهتم بنواح حياتية وعملية أخرى، مثل ما كتبت سابقا عن ماركوتز في النظرية المالية، واليوم عن الرأسمال البشري محور اهتمام جاري بيكر Gary Becker.
ولد جاري في 1930 في بنسلفانيا لعائلة يهودية من الطبقة العاملة، لكن تميزه الأكاديمي قاده لدراسة الاقتصاد في جامعة برنستون، ومن ثم حصل على الدكتوراه من جامعة شيكاغو في 1955 حيث درس على يد ملتون فريدمان وجيكوب مرشاك ليبدأ حياة أكاديمية حافلة.
بحث الدكتوراه كان عن العنصرية، ما فتح بابا لأبحاثه لاحقا في الرأسمال البشري، واستمر في الجامعة أغلب حياته المهنية بعد التخرج ليصبح بروفيسورا في 1964، إلى أن تقاعد في 2011. بينهما عمل أعواما قليلة في جامعة كولومبيا حتى 1970.
باكورة مساهمته الفكرية والبحثية كانت من خلال كتابه Human Capital A Theortical and Empirical Analysis الرأسمال البشري: تحليل نظري وتجريبي. طبع الكتاب في 1964، قدم فيه التعليم والتدريب كاستثمار في الأفراد لتعزيز إنتاجيتهم وفرصهم في دخل أعلى.
كانت الفكرة غير تقليدية في حينها، إذ كان ينظر للتعليم والتدريب كاستهلاك، إذ أثبت جاري أن هناك عائدا اقتصاديا وليس مجرد مال يصرف كاستهلاك، هذا التوجه بدأ تدريجيا يمتد إلى السياسات العمالية عالميا، كذلك توسع في أبحاثه ليتعامل مع اقتصادات الصحة والخبرة والتدريب أثناء العمل. تمكن من توسيع أبحاثه في توظيف آليات وأدوات اقتصادية لتحليل ودراسة الجوانب الاقتصادية في الزواج والخصوبة والعنصرية والجريمة والإدمان. كما اهتم في المالية العامة بالصراع بين صافي دافعي الضرائب والمستفيدين منها، لذلك لا بد للدولة من مراعاة التوازن بين الفاعلية والعدالة، تعامل مع هذه الظواهر والتحديات من خلال كتابه: A Treatise on the Family بحث في العائلة" في 1981، ناقش فيه عملية صنع القرار في العائلة كأولويات اقتصادية وتقاسم المهام العملية في الأسرة الواحدة، فمثلا في اقتصادات الجريمة حاول تفهم التصرفات الإجرامية عقلانيا، حيث يحاول مرتكب الجريمة الموازنة بين التكلفة ممثلة بالعقاب المحتمل والمكسب من عمل غير مجاز قانونيا قبل ارتكاب الجريمة.
كان أكاديميا متميزا، عرف عنه أنه محاضر متمكن من شرح مبسط للأفكار الاقتصادية المعقدة.
مساهمته الفكرية لاقت قبولا جيدا عبر عنه بالحصول على دعوات كثيرة للمحاضرات في جامعات ومراكز أبحاث عديدة.
فاز بجائزة نوبل للاقتصاد لأعماله في الرأسمال البشري، خاصة في دور أفكاره في توظيف الاقتصاد في نواح مجتمعية متعددة، بالذات من زاوية العلاقة مع تخصصات اجتماعية أخرى.
استمرت أفكاره في التأثير على السياسات العامة، خاصة أنها توافقت زمنيا مع سياسات السوق التي جاءت مع إدارات ريجان وتاتشر. النقد عليه لاحقا جاء بعد التوسع في سياسة السوق، حيث امتد اللوم بأن النظرة للبشر أصبحت مجرد رقم مالي.
اليوم نجد أن هناك نقدا لهذا الطرح، إذ يقال النقاد إنه بالغ في دور توظيف آليات اقتصاد السوق، وبالتالي أسهم في الحد من المساواة، التي من أعراضها المبالغة في التخصيص الذي بدوره تزامن مع هجرة الصناعات والأجور المرتفعة إلى دول أخرى، مثل الصين والمكسيك، وبالتالي أضر بالطبقة الوسطى. ستبقى أفكار جاري مرجعا للتحليل والفاعلية والتبصر في فرز الأدوار الاقتصادية، انتخب رئيسا لجمعية الاقتصاد الأمريكية.
توفي جاري بيكر في شيكاغو في 2015 وخلف ابنتين وزوجة.