القارة السمراء .. صدمات خارجية وصراعات وافتقاد للأمن الغذائي
تقدر المنظمات الدولية العاملة في مجال الإغاثة أن 346 مليون شخص من غرب القارة الإفريقية إلى شرقها يعانون خطر انعدام الأمن الغذائي، أي أن ربع سكان القارة السمراء تقريبا يواجهون مشكلة غذائية حقيقية، من بينهم 140 مليون شخص يعانون الجوع.
ومن المؤكد أنك سمعت العشرات من القصص المأساوية عن أسر أجبرت على مغادرة منازلها وأماكن إقامتها وقراها التي نشأت وترعرعت فيها بحثا عن الطعام، وشهادات لمواطنين أفارقة اضطروا لترك أحبائهم المسنين، لأنهم أضعف من أن يواجهوا الرحلة الطويلة إلى جهة مجهولة سيرا على الأقدام بحثا عن الطعام.
في الصومال وحدها يوجد نحو 6.5 مليون شخص لا يحصلون على حاجاتهم من الطعام في وقت تتزايد فيها معدلات الوفيات بين الأطفال، وذلك على الرغم من أن الآباء يضحون بوجبات الطعام حتى يتمكن أطفالهم من تناوله، بينما تقوم كثير من العائلات الإفريقية بإخراج أبنائها من التعليم من أجل العمل وكسب المال، إلا أنهم مع ذلك لا يستطيعون توفير احتياجاتهم الغذائية.
خريطة الأزمة الغذائية في إفريقيا تكشف أن المشكلة لربما تطول بلدانا بوزن نيجيريا، حيث يوجد 17.5 مليون شخص ليس لديهم ما يكفيهم من طعام، ويتحمل الجوع المسؤولية عن 45 في المائة من وفيات الأطفال، وفقا لتقديرات الصليب الأحمر البريطاني.
في الحقيقة، كلمة إفريقيا في حد ذاتها كفيلة بأن تستحضر في الأذهان قارة محكوما عليها بالفشل والإخفاق، حروب أهلية ونزاعات داخلية وتنظيمات إرهابية ومهاجرون بالملايين يرغبون في عبور البحر الأبيض المتوسط فيلقى الآلاف منهم مصرعهم، ويتحول “المتوسط” إلى مقبرة عالمية كبيرة، مع هذا فإن الصورة الأكثر ترسخا في الأذهان عن إفريقيا تظل الجوع والمجاعة.
من جانبه، يقول لـ”الاقتصادية” مايكل فيليب استشاري سابق في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو”: إن سكان القارة السمراء يعانون بشكل كبير الصدمات الخارجية والتغير المناخي والحروب والصراعات، ويعاني عديد من بلدان القارة المشكلات التي تضر وتحد من قدرتها على ضمان الأمن الغذائي لشعوبها، والوضع يعيد نفسه عاما بعد عام، وذلك على الرغم من أن إفريقيا تتمتع بوفرة شديدة في الموارد الطبيعية.
ويضيف “تفتخر القارة بالأراضي الصالحة للزراعة والحياة البرية الثرية، وعلى الرغم من امتلاكها بعض الصحاري الأكثر جفافا في العالم، فنلحظ أنه منذ سبعينيات القرن الماضي أصبحت البيئة والموارد الطبيعية الرئيسة في معظم البلدان الإفريقية مهددة بشكل متزايد بسبب تصاعد الضغط من السكان والنمو غير المخطط للمدن التي تتزايد بشكل سريع، فضلا عن تأخر التنمية إلى حد كبير، يضاف لذلك الاضطرابات السياسية التي ألحقت ضررا كبيرا بالقارة”.
وتشير التقديرات الدولية إلى الأزمة الغذائية الإفريقية في تفاقم نتيجة الجفاف الشديد والحروب المستعرة وارتفاع أسعار الغذاء العالمية بسبب الحرب الروسية- الأوكرانية والعقوبات الدولية المفروضة على روسيا، وفي ظل تلك الأوضاع تتزايد مخاوف منظمات الإغاثة الدولية من أن يؤدي الاهتمام الأوروبي والأمريكي المفرط بالحرب الدائرة في أوكرانيا إلى نسيان الاحتياجات الماسة لإفريقيا، وعدم كفاية التمويل العالمي لتلبية الاحتياجات الغذائية لسكان القارة.
لا ينفي أغلب الخبراء أن الظرف الدولي الراهن يتحمل المسؤولية عن انعدام الأمن الغذائي في القارة السمراء، لكن السؤال الذي يطرحه البعض، إذا تغيرت الظروف الدولية الراهنة، فهل ستنجو إفريقيا من أزمتها الغذائية؟
ويرى عدد من الخبراء أن أسباب الأزمة الغذائية في إفريقيا تتجاوز بكثير قضية الحرب الروسية- الأوكرانية وما نتج عنها من ارتفاع في معدلات التضخم، فهناك تدهور تاريخي مطرد في الأمن الغذائي في القارة وتنامي دائم في أعداد من يعانون نقص الغذاء بين الأفارقة، فعلى سبيل المثال قفز عدد من يعانون افتقاد القدرة على توفير احتياجاتهم الغذائية من 100 مليون نسمة في ستينيات القرن الماضي إلى 200 مليون عام 1995، وبحلول عام 2025، فإن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن 60 في المائة من السكان لن يكونوا قادرين على توفير احتياجاتهم من الطعام.
من ناحيتها، ذكرت لـ”الاقتصادية” الدكتورة أورلا جورن أستاذة الدراسات الإفريقية في جامعة إدنبرة، أن “هناك عديدا من العوامل التي تعد معوقات لإنتاج الغذاء في القارة الإفريقية على المدى الطويل، وتشمل تدهور خصوبة التربة، وسوء إدارة الموارد المائية المتاحة والآفات والأمراض والممارسات غير الملائمة لإنتاج وتخزين وتجهيز الأغذية، والصراعات الأهلية والحروب والسياسات الاقتصادية السيئة لدعم إنتاج الغذاء”.
وذلك فضلا عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدني للنساء اللائي يشكلن أغلبية منتجي الغذاء في القارة، إضافة إلى الزيادة المتنامية في أعداد السكان من 118 مليون نسمة مطلع القرن الـ20 إلى 788.5 مليون عام 1997، والآن يتجاوز سكان القارة 1.4 مليار نسمة، وعلى الرغم من أن الزيادة السريعة ليست مشكلة بقدر ما أن المشكلة تكمن في فشل النمو الاقتصادي في مواكبة النمو السكاني، لأن الإمكانات الزراعية في القارة هائلة وقاعدة الموارد الطبيعية ضخمة وغير مستغلة.
ويعتقد عديد من الخبراء أن السياسات الاقتصادية غير المتوازنة والانحياز الاجتماعي الذي يصب في مصلحة مجموعات وفئات محددة أدى إلى إفقار المناطق الريفية ودفع بكثير من سكان الريف إلى الحضر بحثا عن سبل معيشة أفضل، آخذا في الحسبان أن معدل النمو الحضري في القارة يبلغ 4 في المائة سنويا وهو الأعلى في العالم، هذا الوضع الذي تجاهل الريف أدى إلى تدهور الأراضي وقلص القوى العاملة الريفية خاصة مع فرار الشبان إلى المدن حيث يصطدمون بارتفاع معدلات الفقر، ما يدفعهم إلى الهجرة.
وتشير عديد من التقارير الزراعية الدولية إلى حالة من التناقض الزراعي في كثير من بلدان القارة، ما يفاقم الانعدام الغذائي بها، ففي بعض الحالات يكون الجوع وعدم كفاية المواد الغذائية ناجم عن تدهور مستوى الإنتاج الزراعي نتيجة عدم توافر المدخلات الضرورية، وبالتالي تحقيق المزارعين عوائد مالية منخفضة للغاية لا تمكنهم من مواصلة إنتاج المحاصيل الغذائية في الموسم التالي.
بينما نجد في سياق آخر عمليات إنتاج زراعي حديثة للغاية، لكنها لا ترمي إلى إنتاج المحاصيل الغذائية التي يحتاج إليها سكان القارة في غذائهم اليومي، وإنما إنتاج محاصيل للتصدير بهدف تحقيق عوائد مالية مرتفعة، ومن ثم استيراد المواد الغذائية التي يحتاج إليها السكان، وفي الأغلب ما ينجم عن هذين النموذجين انخفاض في عدد العاملين في القطاع الزراعي ونزوحهم إلى المدن بحثا عن عمل، وفي ظل غياب خطط حقيقية للتنمية الاقتصادية تتزايد الضغوط الاجتماعية في المدن، وتتصاعد مشكلات الفقر بما يعنيه من عدم القدرة على تحقيق دخل مادي يضمن للفرد توفير احتياجاته الغذائية.
ويتعلق الأمن الغذائي بكرامة الإنسان أولا وأخيرا، كما أنه حق أساسي من حقوق الإنسان، ولهذا السبب عد القضاء على الجوع أحد أهداف الأمم المتحدة الإنمائية، كما عد أيضا أن تحقيق هذا الهدف سيسهم بشكل كبير في تحقيق الأهداف الإنمائية الأخرى للمنظمة الدولية.
وفي الواقع، فإن الفقر أحد أسباب الجوع في القارة السمراء، والجوع بدوره يزيد من معدلات الفقر ويجعل المشكلة أكثر حدة، فأكثر من نصف سكان إفريقيا يعيشون تحت خط الفقر المقدر بـ1.5 دولار يوميا، ونحو 75 في المائة من فقراء القارة يقطنون الريف، وحيث إن الفقر يؤدي إلى الجوع، فإن الجياع تكون قدرتهم وطاقتهم على الإنتاج أقل من إمكاناتهم، وهذا ما يجعل القارة تعاني حلقة مفرغة، حيث يؤدي الفقر إلى مزيد من الجوع، ويؤدي الجوع بدوره إلى مزيد من ضعف القدرة الإنتاجية، ومن ثم يعزز ويزيد من معدلات الفقر، تلك الحلقة الإفريقية المفرغة تزداد تعقيدا عندما يترك الفلاحون قراهم وينتقلون إلى المدن بحثا عن عمل، فينقلون معهم فقرهم وجوعهم إلى المناطق الحضرية التي يستقرون فيها.
وهنا يوضح لـ”الاقتصادية” الباحث الاقتصادي إلبي رواي، أنه “ربما يكون لتداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية تأثير في تفاقم انعدام الأمن الغذائي في إفريقيا، وقد يتطلب ذلك تقديم مساعدات عاجلة لسكان القارة للخروج من هذا المأزق، لكن إفريقيا في حاجة إلى ما هو أكثر استدامة من تقديم المساعدات لمواجهة أزمتها الغذائية، إنها في حاجة إلى خطة متكاملة توجد حالة من التنمية المستدامة إذا كانت ترغب في إنقاذ مواطنيها من مهانة العوز والجوع، وحتى الظواهر المناخية التي تتحمل جزءا من تصاعد المشكلة الغذائية في القارة السمراء في الأعوام الأخيرة، فإنها ليست قضية بلا حل، ولكن هناك حالة من عدم الجدية في عديد من بلدان إفريقيا للتعامل مع المشكلة”.
ويضيف “على الحكومات الإفريقية أن تدرك أن حل قضية انعدام الأمن الغذائي والجوع يقع في أيديها هي أولا وأخيرا، فالاستقرار السياسي الغائب في بلدان كالصومال وإثيوبيا يتحمل الجزء الأكبر من المشكلة الغذائية، والفساد في بلد ثري كنيجيريا يتحمل أيضا مشكلة انعدام الأمن الغذائي، أضف لذلك السياسات الاجتماعية المنحازة لمصلحة مجموعات وفئات ضيقة، وعدم وجود خطط حقيقية نابعة من الواقع المحلي لحل المشكلة، ما يجعل أزمة الأمن الغذائي والجوع في القارة مشكلة إفريقية من صنع أيادي قادة القارة أولا وأخيرا”.