الفصاحة المستنكرة
يروي أحدهم قصة شاب علق بجوار اسمه لقبا صار يعرف به ويستدل عليه أعواما طويلة، حتى كاد أصدقاؤه ينسون اسمه الحقيقي، وتحولت الكلمة "اللقب" إلى أيقونة النداء وعلامة شخصية لصاحبنا، والقصة كما تروى أن أستاذا في المرحلة المتوسطة دعا الطلاب للانضمام إلى دوري كرة القدم المدرسية وكان الطلاب حينها بين مجيب بنعم أو رافض بلا، إلا صاحبنا كان مترددا بين القبول والرفض فقال "ربما" ولو كان يعلم أنها ستكون علامة فارقة له لم ينبس ببنت شفة، وعقب هذه الكلمة دوت ضحكات الطلاب حتى ضج الفصل وتندر زملاؤه، وصار يعرف بجاء ربما وذهب ربما، وتفضل يا ربما.
هذه القصة الحقيقية تعطينا تصورا عن حالة الفصحى وكيف أصبحت مستنكرة في دارها وغريبة بين أهلها، وتوحي بتحول الفصاحة إلى مادة للهو والتندر، وهذا من الغريب والعجيب في آن واحد، فما سر هذا الوضع، ولماذا تحولت الفصاحة من لغة مطروقة إلى لغة متروكة؟
من خلال نظرة سريعة للوراء ندرك أنها حال قائمة وظاهرة قريبة العهد دانية المهد لم تصل إلى مرحلة أن تكون غريبة المنطق إلا في العقود الأخيرة.
عزا بعض المختصين انتشار هذه الصورة الجديدة إلى عوامل ذهنية ربطت اللهجة الفصيحة بالكلام المقعر المتكلف المصنوع في المسلسلات التاريخية التي أظهرت الفصاحة جزءا من التعصب والجاهلية والغباء أحيانا، فدونك التاريخ المتلفز والمستند إلى إرث قديم ربط الفصاحة بالفكاهة والنكتة، فأنت لا تتصور أن يلبس جحا بدلة وربطة عنق ويتحدث العامية بل بحذاء معكوف وعمامة ملفوفة ومشية متعرجة متمايلة ويهذي في الطرقات بلغة متقعرة مصطنعة مع بهلول.
خلا ذلك، ثمة أسباب أبرزها كثرة اللهجات المحلية للناطقين بالعربية ونمط تقعيد القواعد وأسلوب التدريس ومناهج التعليم المختصة وبيئة الحياة الرقمية وغيرها من الأسباب التي لا يتسع المقال لذكرها، لأنها تحتاج إلى دراسة أسباب نشوء هذه الظاهرة إذا ما علمنا أن جذورها بعيدة ولا نحمل المسؤولية على أحد، لأن القضية ليست في عامل واحد أو زمن واحد بل عدة عوامل اجتماعية وثقافية وفكرية أبرزها امتزاج العرب مع لغات ولهجات أخرى، علاوة على ضغط النحاة على اللغة وإخراجها من نسقها العادي العفوي إلى تقعيد معقد فألفية ابن مالك احتاجت إلى عشرات الشروحات والشروحات احتاجت لشروحات أيضا وصارت النكتة تعبيرا شعبيا للتنفيس عن هذا الضغط الكبير.