عدو الاقتصاد العالمي .. السياسة الجغرافية «2 من 2»
تعد سياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن الصناعية، وإعانات الدعم الخضراء، وشروط "صنع في أمريكا" أوضح الأمثلة على إعادة التوجه على هذا النحو. صحيح أن هذه السياسات تشكل مصدرا للإزعاج في أوروبا وآسيا والعالم النامي، حيث ينظر إليها بوصفها معاكسة لقواعد التجارة الحرة الراسخة. لكنها تعمل أيضا كنماذج لأولئك -في الدول ذاتها في الأغلب- الذين يبحثون عن بدائل للعولمة المفرطة والنيوليبرالية.
لن نضطر إلى العودة لمسافة بعيدة في التاريخ لكي نجد شبيها للنظام الذي قد ينشأ من هذه السياسات الجديدة. في أثناء العمل بنظام بريتون وودز بعد 1945، الذي كانت له الغلبة روحيا حتى أوائل ثمانينيات القرن الـ20، احتفظت الحكومات بقدر كبير من الاستقلالية في إدارة السياسات الصناعية والتنظيمية والمالية، وأعطت أكثر هذه الحكومات الأولوية لصحة اقتصاداتها المحلية على التكامل العالمي. كانت الاتفاقيات التجارية ضيقة النطاق وضعيفة، ففرضت قلة من القيود على الاقتصادات المتقدمة، لكنها كانت أقل تقييدا للدول النامية. وكانت السيطرة المحلية على تدفقات رأس المال القصيرة الأجل هي القاعدة وليست الاستثناء.
على الرغم من هذا الاقتصاد العالمي الأكثر انغلاقا "وفقا لمعايير اليوم"، أثبت عصر بريتون وودز كونه مفضيا إلى قدر كبير من التقدم الاقتصادي والاجتماعي. فقد شهدت الاقتصادات المتقدمة عقودا من النمو الاقتصادي السريع والمساواة الاجتماعية الاقتصادية النسبية حتى النصف الثاني من سبعينيات القرن الـ20. وبين الدول المنخفضة الدخل، حققت تلك التي تبنت استراتيجيات تنموية فاعلة -مثل نمور شرق آسيا- قفزات ووثبات هائلة، حتى رغم أن صادراتها واجهت حواجز أعلى كثيرا من تلك التي تواجهها الدول النامية اليوم. عندما انضمت الصين إلى الاقتصاد العالمي بنجاح كبير بعد ثمانينيات القرن الـ20، فعلت ذلك بشروطها الخاصة، فاحتفظت بإعانات الدعم، وملكية الدولة، وإدارة العملة، وضوابط رأس المال، وغير ذلك من السياسات التي تذكرنا بعصر بريتون وودز أكثر من تذكيرها لنا بالعولمة المفرطة.
ينبغي لإرث بريتون وودز أن يجعل أولئك الذين يعتقدون أن السماح للدول بفسحة أكبر لملاحقة سياساتها الخاصة يلحق الضرر بالضرورة بالاقتصاد العالمي يعيدون النظر في هذا الرأي. إن ضمان سلامة الاقتصاد المحلي هو الأمر الأكثر أهمية الذي تستطيع أي دولة أن تفعله من أجل الآخرين.
لا شك أن السابقة التاريخية لا تضمن أن تفضي أجندات السياسات الجديدة إلى نشوء نظام اقتصادي عالمي حميد. لقد عمل نظام بريتون وودز في سياق الحرب الباردة، عندما كانت علاقات الغرب الاقتصادية بالاتحاد السوفياتي في أضيق الحدود ولم يكن للكتلة السوفياتية سوى موطئ قدم في الاقتصاد العالمي. نتيجة لهذا، لم تتسبب المنافسة الجيوسياسية في عرقلة توسع التجارة والاستثمار الطويل الأجل.
الوضع اليوم مختلف تمام الاختلاف، فالمنافس الرئيس لأمريكا الآن هو الصين، التي تحتل مكانة ضخمة للغاية في الاقتصاد العالمي. والانفصال الحقيقي بين الغرب والصين من شأنه أن يخلف تداعيات كبرى على العالم أجمع، بما في ذلك الاقتصادات المتقدمة، نظرا إلى اعتمادها الشديد على الصين لتدبير الإمدادات الصناعية. على هذا فقد يجد المرء وفرة من الأسباب الوجيهة التي تدعو إلى القلق بشأن صحة الاقتصاد العالمي في المستقبل.
لكن إذا أصبح الاقتصاد العالمي غير مضياف، فسيكون هذا راجعا إلى سوء إدارة أمريكا والصين للمنافسة الجيوسياسية الدائرة بينهما، وليس أي خيانة مفترضة للتجارة الحرة. يتعين على صناع السياسات والمعلقين أن يظلوا على تركيزهم على المخاطر التي تشكل أهمية حقا.
خاص بـ «الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2023.