الطلب الصيني على النفط يفوق التوقعات

لقد كانت الصين محط اهتمام محللي النفط لأعوام عديدة، وذلك لكونها أكبر مستورد للنفط الخام في العالم. حتى ظهور جائحة كورونا، كان اتجاه الطلب على النفط في الصين واضحا تماما: كان يرتفع بصورة مستقرة دون انقطاع، مع احتمال تفوقها في مرحلة ما على الولايات المتحدة من حيث الاستهلاك. ثم جاءت الجائحة، ولم تعد الأمور على حالها.
أدى الوباء وعمليات الإغلاق في معظم أنحاء العالم إلى تدمير الطلب العالمي على النفط وإضفاء حالة من عدم اليقين على التوقعات المستقبلية. وتحول الحديث عن الناتج المحلي الإجمالي إلى الحديث عن الانتعاش ما بعد الوباء. وهنا، كان من المتوقع من الصين أن تفعل ما فعلته منذ التسعينيات، أي أن تنمو بقوة وثبات. لكن، الأمور لم تسر كما كان متوقعا، وفقد المحللون، بطريقة ما، ارتباطهم بما يجري على أرض الواقع. كانت الصين تتعافى من عمليات الإغلاق بصورة مختلفة بكثير مما كان متوقعا. وكانت المؤشرات الاقتصادية، مثل مؤشر مديري المشتريات PMI، أقل من عتبة النمو لعدة أشهر. ولأن الصين تعد نقطة محورية لتحليل أسعار النفط، فقد افترض معظم اللاعبين في السوق أن الصين لديها مشكلة مع الطلب على النفط على خلاف الواقع.
وكان الافتراض الذي أبقى أسعار النفط منخفضة لفترة كبيرة من هذا العام هو أن الاقتصاد الصيني لم ينم كما كان متوقعا. وكان مؤشر مديري المشتريات أقل من 50 نقطة لمدة خمسة أشهر على التوالي. ومع ذلك، فقد تحركت عديد من المؤشرات الأخرى فوق عتبة النمو. ثم هناك مؤشرات الطلب المباشر على النفط. ففي الأشهر السبعة الأولى من العام، ارتفعت واردات الصين من النفط الخام بنسبة 12.4 في المائة لتصل إلى 326 مليون طن (11.6 مليون برميل في اليوم). وكان هناك سبب وجيه لهذه الواردات: كان الطلب على الوقود أفضل بكثير مما يوحي به مؤشر مديري المشتريات.
وفي أغسطس، استوردت الصين ثالث أكبر كميات شهرية من النفط الخام على الإطلاق، حيث ارتفعت الواردات 20.9 في المائة مقارنة بيوليو، وبنسبة 30.9 في المائة مقابل أغسطس من العام الماضي، وفقا لبيانات الجمارك الصينية. وبلغت واردات الصين من النفط الخام الشهر الماضي نحو 12.43 مليون برميل يوميا، وهو ثالث أعلى معدل يومي على الإطلاق للواردات خلال شهر، وفقا للمصدر نفسه. ارتفعت واردات النفط الخام مع استمرار مصافي التكرير في بناء المخزونات وزيادة معدل تشغيل المصافي من أجل الحصول على هوامش أعلى في تصدير الوقود.
وبلغ متوسط واردات الصين من النفط الخام في يوليو 10.29 مليون برميل يوميا، بانخفاض كبير عن واردات يونيو القياسية البالغة 12.67 مليون برميل يوميا، لكنها لا تزال أعلى بنسبة 17 في المائة على أساس سنوي. وفي أغسطس، قامت مصافي التكرير بمعالجة كميات أكبر بكثير من الوقود لتلبية ذروة الطلب على السفر في الصيف - وهو أول صيف دون إغلاق في الصين منذ ثلاثة أعوام - وللاستفادة من الهوامش المرتفعة خارج الصين عند تصدير الوقود. بالفعل، كان تعافي الطلب في الصين كبيرا. في هذا الصدد، أشارت وكالة ستاندرد آند بورز جلوبال إلى أن السفر هو الدافع وراء زيادة الطلب الصيني على النفط، وعدت أن قطاع التصنيع لم يكن العامل الحاسم في دفع سوق النفط خلال الفترة الأخيرة.
ومن المرجح أن يرى البعض، مثل وكالة "بلومبيرج"، ذلك علامة على أن قطاع التصنيع في الصين يمر بمخاض عسير. حيث، قالت الوكالة: "إن الصين تتحول إلى مسار نمو أبطأ في وقت أقرب مما توقعنا، وأن الانتعاش بعد الجائحة قد نفد عزمه". في حين، لاحظ آخرون أن الطلب على الوقود في أكبر سوق للسيارات الكهربائية في العالم قوي جدا على الرغم من هذه الحقيقة. ولكن، ماذا عن الولايات المتحدة في تلك الفترة؟ لقد بدأ التضخم في الزحف، وبقيت مؤشرات مديري المشتريات أقل من 50 نقطة لمدة ليست لخمسة أشهر بل لعشرة أشهر متتالية، ولا تزال هناك مخاوف من الركود. لكن الحقيقة الأساسية هي أنه على الرغم من الركود الفعلي في التصنيع، فإن الطلب على الطاقة في الولايات المتحدة لم ينخفض إلا بالكاد. لذا، إذا كان التصنيع لا يؤثر حقا في الطاقة، والطلب في الولايات المتحدة، فلماذا ينبغي إخضاعه لمثل هذا التدقيق الدقيق في الصين؟ ربما يكون من المعتاد أن يفعل المحللون ذلك، ولكن هناك أيضا مسألة الافتراضات.
في هذا الجانب، أشارت "بلومبيرج" مرة أخرى إلى أن مشتريات الصين من الغاز الطبيعي المسال في السوق الفورية كانت أبطأ من المتوقع هذا العام. وكانت أعلى بنسبة 11 في المائة عن العام الماضي خلال الفترة من يناير إلى أغسطس، لكن هذا لا يزال أقل من الرقم لـ2021، ما زاد من عدم اليقين بشأن الشتاء المقبل. قد تكون للزيادة المتواضعة في مشتريات الغاز الطبيعي المسال الفورية علاقة بارتفاع حجم واردات الغاز عبر خطوط الأنابيب من روسيا. حيث شكلت شركة غازبروم، وفقا لرئيسها التنفيذي، أكثر من نصف الزيادة في واردات الصين من الغاز هذا العام، التي بلغت 8 في المائة في الأشهر السبعة الأولى من العام. وقد تكون له أيضا علاقة بزيادة إنتاج الغاز المحلي. على الرغم من أنه من الصعب العثور على أرقام محددة للإنتاج، إلا أن الصين قد بذلت كثيرا من الجهود لتعزيز العرض المحلي من النفط والغاز من أجل تقليل اعتمادها على الواردات. كما قامت أيضا بتوسيع التزاماتها بشراء الغاز الطبيعي المسال على المدى الطويل، الأمر الذي سيؤثر بلا شك في شراء الغاز الطبيعي المسال الفوري في المستقبل.
تتوقع "أوبك" ارتفاع إجمالي الطلب على النفط في الصين بنسبة 6.2 في المائة هذا العام إلى 15.77 مليون برميل يوميا. وتتوقع المنظمة انخفاض معدل النمو بشكل حاد العام المقبل إلى 3.7 في المائة مع استقرار الوضع بعد الجائحة.
ليست "أوبك" وحدها التي تتوقع نموا قويا للطلب على النفط من الصين. حيث، يتفق جميع المحللين تقريبا على أن البلاد هي أكبر محرك للطلب على النفط في العالم في الوقت الحالي، بغض النظر عما تقوله بيانات مؤشرات مديري المشتريات وثقة المستهلك.
وقد يكون من الأجدى أن يبدي المحللون مزيدا من الاهتمام للعوامل المباشرة التي تؤثر في أسعار النفط بدلا من اتباع قراءات المؤشرات الاقتصادية ووضع افتراضات دون أي معلومات إضافية عن حجم الواردات. هذا هو أحد العوامل الرئيسة التي أدت إلى ارتفاع سعر خام برنت فوق 90 دولارا للبرميل، إضافة طبعا إلى تخفيضات "أوبك+" بقيادة المملكة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي