ابن سعود والصحراء .. عبقرية الإنسان والمكان
ماذا لو قدر للملك عبدالعزيز أن يكتب مذكراته كما هو شأن بعض الرجال الذين كتبوا تاريخ حياتهم، وأصبح لكتاباتهم هذه شأن وإقبال لدى القراء؟ ترى كم ستكون قيمة مذكرات عبدالعزيز التي يكتبها بيده؟ وإلى كم لغة ستترجم؟ فيما لو كتب مذكراته هذا البطل، على الرغم من أن ما كتبه البعض عن تاريخ حياتهم يعد ليس ذا قيمة إذا أردنا أن نقيسه بتاريخ حياة المؤسس التي جلها بطولات، ومغامرات وغارات وفتوحات.
سؤال طرحه الأديب والمفكر فهد المارك، في كتابه (من شيم الملك عبدالعزيز)، الذي يقع في ثلاثة مجلدات، مستعيدا حادثة يوردها أحد الحاضرين في مجلس الملك وهو يتحدث عن وقائع عاشها، وهناك قال "خذوا عني التاريخ ما دمت بينكم حيا، فكم من حادثة تاريخية ستموت معي".
عبقرية المكان
شيئان هائلان في الجزيرة العربية، الصحراء وابن سعود.. حقيقة يشهد لها القاصي والداني، جاءت على لسان الكاتب والسياسي العربي عوني عبدالهادي (1936)، الذي مضى في توصيفه لحال المنطقة قبل نحو مائة عام: "شيئان هائلان في الجزيرة العربية، الصحراء وابن سعود، عبارة عن عالم في رجل، ملم كل الإلمام بدخائل ملكه، مؤمن متدين إلى حد عظيم، قالوا إن الذي يصغي إليه وهو يقرأ القرآن في الليل لا يملك نفسه من البكاء".
لا شك أن الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – إن كتب مذكراته، كانت الصحراء ستستأثر بنصيب كبير منها، فقد كان يقول عن حياته في الصحراء: "إن أجمل أيام حياتي كانت خلال أعوام النضال في الصحراء، أعوام الجوع والظمأ والخطر، ولم تكن طويلة، فقد امتدت بين عشرة أعوام و12 عاما، لكن كل يوم من أيامها كان يحمل في طياته الحبور والسرور، سقى الله تلك الأيام، وسقى رفاقها المخلصين".
ومن عبقرية الصحراء، تفتقت عبقرية قائد بحجم الملك المؤسس، الذي يحمل من الصفات ما تؤهله لإقامة مشروع الدولة القوية، وفق ما سجله مستشاره الشيخ حافظ وهبة في كتاب (جزيرة العرب في القرن العشرين)، فمؤسس البلاد مشهور في بلاد العرب بكرم الخلق وبسط اليد، لا يعرف أي قيمة للدرهم إلا أنه وسيلة لبناء المجد أو حسن الذكرى، فقلما يرد سائلا يطلب معونته، أو محتاجا يقصد بابه، وهو يشرف بنفسه على إعطاء القاصدين بحسب منازلهم، لأنه يعرفهم حق المعرفة، وقلما يعتمد على أحد آخر في ذلك، وديوانه مفتوح للقادمين، يقابل زائريه مهما يصغر مقامهم، بوجه باش ويأخذ ألبابهم بابتسامته التي لا تكاد تفارقه، ومجلسه لا يخلو من خطبة صغيرة يراعي فيها نفسية السامعين.
3 مزايا يتصف بها المؤسس
حديث نادر للملك فيصل رحمه الله، يوثقه كتاب (سلطان نجد والحجاز وملك المملكة العربية السعودية وأنجاله في صحافة عصره)، لجامعه عبدالمحسن بن صالح اليوسف، حينما قابل صحافي مجلة "المصور" الأمير فيصل في صباه وأثناء زيارته لمصر، حيث استأذنه الصحافي في الحديث عن والده كما يعرفه ملكا وقائدا، فقال: إنه ليس من اليسير أن أتحدث عن والدي كملك، لأن ذلك من حق التاريخ وحده، ربما كان غيري أقدر مني على إنصاف رجل عظيم مثله، بنى ملكا بعصاميته، وحفظ للعرب تراثا مجيدا في البلاد المقدسة، وأقام الأمن والنظام في بقاع كانت تسودها الفوضى ويهددها الخوف في طرقها وأرجائها، وتتألف من مقاطعات وإمارات وقبائل شتى في مساحات شاسعة، غير أنني أستطيع أن أذكر بعض مزاياه التي هيأت له أن يبني هذا الملك، وأن يشيد هذا المجد والسلطان، على الرغم مما صادفه من شدائد وأهوال لم تثنه عن الوصول إلى غايته ولم تصرفه عن تحقيق أهدافه.
بعد هذه المقدمة، أخذ الملك فيصل يسرد مزايا والده التي يتصف بها، وأولها قوة الإيمان "فما رأيته منذ نشأت قد ضعف إيمانه بالله أو تخلى عن ثقته بنصر الله، ولقد أصيب في عنفوان صباه بضياع إمارة أبيه عبدالرحمن الفيصل على الرياض، وسقوطها في أيدي منافسيه، فرحل والدي إلى الكويت، ونزلوا ضيوفا على شيخها، وانضموا إليه، وعلى الرغم من هزيمتهم في عدة معارك فإنه ما كاد يستعيد تنظيم جيشه الصغير في ذلك الحين حتى هب لاستعادة بلاده، تحدوه قوة إيمانه وقد صمم على الموت أو الفوز في الرياض حتى أعادها وأعاد إليها مجد آبائه".
ثم ذكر المزية الثانية، وهي قوة الإرادة وشجاعته التي تبرز في أحرج المواقف وأدق الظروف، وثالث المزايا حكمته وأناته في معالجته لأمور دولته، وهو يتوخى حل المشكلات بالسلم أولا، كما أنه متسامح مع خصومه واسع الصدر، لا يدخر وسعا في استخدام المرونة والأناة ووسائل اللين، ولا يلجأ إلى الشدة حتى يستنفد هذه الوسائل.
أبي .. الملك عبدالعزيز
يستذكر الملك فيصل مواقف وأحداث شهدها رفقة الملك عبدالعزيز، كما شهدها شعبه والعالم، لكنه يخص الصحافة بمواقف أخرى شهدها في بيته، مع الملك الأب، ويقول "والدي الملك عبدالعزيز كأب، فإني أستطيع أن أقول إن كل فرد في شعبه يعده أبا له لما عرف عنه من عنايته بأبناء رعيته وعطفه الكبير وحنانه الواسع، إن والدي في تربيته يجمع بين الرحمة والشدة ولا يفرق بيننا وبين أبناء شعبه وليس للعدالة عنده ميزانان يزن بأحدهما لأبنائه ويزن بالآخر لأبناء الشعب، فالكل سواء عنده والكل أبناؤه، وأذكر أن أحد إخوتي الأطفال اعتدى على طفل آخر فما كان من جلالته إلا أن عاقبه وبعث به إلى الحبس ولم يشفع له أنه ابن الملك، وليس لشفقة والدي وحنانه على أبنائه وأحفاده حدود، بل يغمرهم بعطفه في كل آن، وهو يحب أن يراهم يوميا خاصة صغارهم، فيجتمعوا بعد مغرب كل يوم في قصره فيجلس إليهم ويلاطفهم واحدا واحدا، ويقدم لهم الحلوى والهدايا، ويحب المباسطة على المائدة خلال تناول الطعام، ويمازح أبناءه وجلساءه ويحادثهم أحاديث طلية لا أثر للكلفة فيها، ويعاملهم معاملة الصديق للصديق".
هذه الصفات الإنسانية تجسد الملك عبدالعزيز كأننا نراه عن كثب، لتكشف أن ما حدث قبل نحو قرن من اليوم على أرض المملكة لم يكن شيئا عاديا على الإطلاق.
الملك عبدالعزيز شاعرا
مثلما كانت ستجمع المذكرات قصصا ومواقف لصاحبها، لا بد أن يذكر كاتبها أشعارا كتبها، تلخص ما مر به من انتصارات وأحداث حافلة.
لم يكن مفاجئا أن الملك عبدالعزيز يعرف الشعر، ويتذوقه، بل ينظمه على طريقته، طريقة المعرفة والفهم والتذوق، وهكذا ابنه فيصل كذلك، فهو لا يقوله على طريقة الشعراء، لكن على طريقته "الملكية" الخاصة، تعبيرا وشعورا وإنسانية، هو لذلك قليل بل أقل من القليل، بحسب فؤاد شاكر، أول رئيس للتشريفات - المراسم الملكية ومؤلف كتاب (الملك عبدالعزيز سيرة لا تاريخ).
أما ماذا يقرأ، فكان الملك منذ صغره وصباه، وعلى مدار حياته كلها، يواصل قراءة القرآن الكريم، لذلك يحفظه عن ظهر قلب، أو يحفظ منه الشيء الكثير، ويظهر ذلك فيما يستشهد به من آيات الكتاب المبين في مختلف الموضوعات أو المناسبات التي يتحدث بها، وتسعفه في ذلك بديهة حاضرة، وذاكرة واعية سريعة، ولا أدل على عمق حفظه وفهمه للقرآن الكريم من أنه كان يفسر بعض آياته الكريمة، تفسير فهم ومعرفة، بل كان يفسر ذلك في مجلسه الحافل بالعلماء والكبار من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، الأمر الذي يدل على تمكنه وتأكده مما يقول، وكان الجميع ينصتون، ويعجبون بما يسمعون منه، ولا يذكر شاكر مطلقا ولا مرة واحدة أن شخصا اعترض على شيء قاله، أو جملة أو عبارة ذكرها، بل كان الإعجاب والإنصات والتأمين على كل ما يقول هو سمت المجلس ومظهره.
ومع أن أوقات شبابه حافلة بالحركة الدائبة والحروب المستمرة، والعمل لتأسيس هذه المملكة المترامية الواسعة، سواء في مجال الحرب أو السياسة، أو التفكير، كانت تستنفد ساعات ليله ونهاره، إلا أن ديوانا واحدا من عيون الشعر العربي كان رفيقه وأنيسه في ساعات خلوته، إنه ديوان "ابن المقرب"، بالنظر لما اشتمل عليه من شعر حماسي رائع، يحمل كل معاني الرجولة والشجاعة والجرأة والإقدام، وأكبر الظن أن هذا الشعر الحماسي كان هو المعنى الطبيعي الذي يأنس إليه، لا ليستفيد منه درسا في الشجاعة، لكن للمعاني التي كانت متجاوبة مع نفس القارئ العظيم.
هذا إلى جانب ما اختزنته ذاكرته من شعر العرب والحكم، ومما ذخر به ديوان العرب، أي الشعر العربي، في جميع العصور والحقب، لتكشف جميعها عن ملك مثقف وشجاع، تمنى شعبه لو قرأ مذكراته بيده.