شركات مهيمنة .. إقصاءات فاحتكار
يبدو أن الاتحاد الأوروبي سيدخل في معركة كبرى مع أكبر شركات التكنولوجيا العالمية، من خلال تطبيق وفرض وتنفيذ إجراءات قانونية محكمة ضد هذه الشركات، وفي الوقت نفسه، تواجه هذه الشركات مسألة الامتثال لهذا القانون الأوروبي الجديد الشامل، الذي يستهدف تطبيق إجراءات غير مسبوقة على المنصات عبر الإنترنت وعلى شركات كبرى، بما فيها أمازون وأبل وجوجل وميتا ومايكروسوفت وسناب شات وتيك توك، وعديد من الشركات الأخرى، ما يعكس أحد أكثر الجهود شمولا وطموحا من قبل صانعي السياسات في أي مكان لتنظيم شركات التكنولوجيا العملاقة من خلال التشريعات، وقد يؤدي ذلك إلى فرض غرامات، التي تم بالفعل تطبيقها على بعض الشركات، وتغييرات في البرمجيات تؤثر في المستهلكين. وتهدف القواعد الجديدة إلى معالجة بعض المخاوف الأكثر خطورة التي أثارها منتقدو منصات التكنولوجيا الكبيرة في الأعوام الأخيرة، ومنها انتشار المعلومات المضللة وعدم الدقة، والأضرار المحتملة على الصحة العقلية، خاصة بالنسبة إلى الشباب، والثغرات الكبيرة في المحتوى الموصى به خوارزميا ونقص الشفافية، وانتشار المنتجات غير القانونية أو المزيفة في الأسواق الافتراضية، وأيضا تشمل مسألة الاحتكار.
وعلى هذا الصعيد وقبل عدة أيام صدر حكم المحكمة العامة الأوروبية، وهي ثاني أعلى محكمة في أوروبا، بتغريم شركة إنتل بنحو 400 مليون دولار في قضية مكافحة احتكار في الاتحاد الأوروبي، رفعتها المفوضية الأوروبية، بسبب ممارسات مخالفة لقواعد التنافسية من جانب شركة إنتل وهي شركة تصنيع الرقائق الأمريكية، وبهذا الحكم ألغت المحكمة العامة الأوروبية غرامة أولية قياسية بلغت 1.06 مليار يورو في 2009 في تلك المخالفة وممارسات أخرى. لكن الغرامة في حد ذاتها تأكيد على وجود ممارسات احتكارية من جانب شركات التقنية، فقد قالت المحكمة الأوروبية إن "إنتل" أقصت منافسيها بصورة غير قانونية من السوق.
وليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها شركات التقنية مثل هذه الاتهامات من هيئة الرقابة على الاحتكار في الاتحاد الأوروبي، فقد سبق أن تم فرض غرامة قدرها 2.42 مليار يورو على جوجل لإساءة استخدام الهيمنة كمحرك بحث من خلال منح ميزة غير قانونية لخدمة التسوق المقارنة الخاصة بها، فقد هيمنت جوجل على كل أسواق الإنترنت في جميع أنحاء المنطقة الاقتصادية الأوروبية، وأن محرك بحث جوجل قد استحوذ على حصص سوقية عالية جدا في جميع دول المنطقة الاقتصادية الأوروبية، تتجاوز 90 في المائة في معظمها. وقد فعلت ذلك باستمرار منذ 2008 على الأقل، وهي الفترة التي حققت فيها الهيئة.
وفي السياق نفسه وخارج الاتحاد الأوروبي، أصدرت هيئة المنافسة الهندية قرارها بشأن ما وصفته إساءة شركة ألفابت استخدام موقعها المهيمن في سوق برامج الهواتف الذكية من خلال نظام التشغيل أندرويد الذي يحظى بشعبية كبيرة، وغرمت الشركة 13.4 مليار روبية "162 مليون دولار" وطالبت شركة ألفابت بالتخلي عن استراتيجيتها المتمثلة في التثبيت المسبق لتطبيقات جوجل الشهيرة مثل يوتيوب وخرائط جوجل. ويستخدم نحو 96 في المائة من الهنود نظام تشغيل أندرويد من شركة جوجل على هواتفهم الذكية، في حين يستخدم 3.1 في المائة فقط نظام تشغيل أبل iOS، المنافس الرئيس لنظام أندرويد.
ويشير مصطلح احتكار شركات التقنية، كما هو واضح من الحالات السابقة، إلى سيطرة الشركات الكبيرة على صناعة التكنولوجيا والاتصالات، وهذه السيطرة أو الهيمنة تتمثل في امتلاك هذه الشركات حصة كبيرة من السوق لفترة طويلة، ما يدل على قدرتها على تحديد القواعد والمعايير التي تحكم الصناعة، فمثلا في قضية شركة إنتل مع المفوضية الأوروبية قالت الأخيرة في بيانها "أكدت المحكمة العامة أن قيود (إنتل) الواضحة ترقى إلى إساءة استغلال موقعها المهيمن في السوق بموجب قوانين المنافسة في الاتحاد الأوروبي". ولا تستطيع أي شركة أن تفرض قيودها على سوق بحجم السوق الأوروبية إلا إذا كانت قد وصلت إلى مرحلة السيطرة فعلا، وتستطيع الشركات الوصول إلى هذه المرحلة بعدة عوامل، أهمها أن تتمتع هذه الشركات بموارد مالية ضخمة وفريق عمل مؤهل، ما يسمح لها بالاستثمار في البحث والتطوير وابتكار منتجات جديدة.
فهناك سيطرة واضحة على الموارد الاقتصادية، خاصة الموارد البشرية ذات الصلة، وهذه هي أهم عوامل سيطرة هذه الشركات على الأسواق، فهي تسيطر على جميع القوى البشرية المؤهلة من خلال إغراءات مادية وبيئة عمل يصعب مجاراتها، مستفيدة من بنيتها الرقمية الضخمة، وهذا يجعل الشركات المنافسة غير قادرة على الوصول إلى هذه الطاقات البشرية، ما يجعلها عاجزة تماما عن المنافسة. ثانيا تستفيد هذه الشركات من شبكاتها الواسعة والعلاقات المؤسسية المتينة، ما يجعل من الصعب على المنافسين الصغار دخول السوق والتنافس بشكل فاعل. ثالثا، تمتلك هذه الشركات براءات اختراع وملكية فكرية قوية، تحميها من المنافسة وتجعل من الصعب على الشركات الأخرى تقديم منتجات مشابهة. إن هذه الممكنات الداخلية التي تمنح شركات التقنية كل هذا القوة للهيمنة على الأسواق من الصعب إثباتها كقضايا ضد المنافسة، فمثلا في قضية "إنتل" السابقة ألغت المحكمة الأوروبية غرامات تتجاوز مليار يورو على هذه الشركات، وقالت المحكمة "إن المفوضية ارتكبت أخطاء أساسية في قرارها الصادر 2009 بشأن دعاوى قيام (إنتل) بتقديم تخفيضات كبيرة لشركات صناعة الكمبيوتر لاستقطابها بعيدا عن شركة أدفانسد ميكرو ديفايسز (أيه.إم.دي) المنافسة في ذلك الوقت".
وحتى في القضية التي نجحت فيها المفوضية بتغريم الشركة، فقد جاء دفاع الشركة بأنها تفرض القيود من أجل تقييم عملائها وخياراتها، فإثبات الهيمنة سهل، لكن إثبات أن تلك الهيمنة قد أدت إلى إقصاء المنافسين من خلال تصرفات احتكارية وقيود مستهدفة، هو الأمر الصعب، ولتحقيق ذلك فقد طورت المفوضية الأوروبية قانون الأسواق الرقمية The Digital Markets Act (DMA)، الذي تسعى من خلاله المفوضية إلى فرض تفسيراتها على مفهوم الاحتكار في السوق الرقمية، وقد طور هذا القانون مفهوم "حراس البوابة"، وهي المنصات الرقمية الكبيرة التي توفر ما يسمى بخدمات النظام الأساسية، مثل محركات البحث عبر الإنترنت ومتاجر التطبيقات وخدمات المراسلة، وسيتعين على حراس البوابة الالتزام بما يجب فعله "أي الالتزامات" وما لا يجب فعله "أي المحظورات"المدرجة في DMA.
وهنا نجد أن مفاهيم الاحتكار التي يتم تداولها في هيئات المنافسة العالمية قد تم تجنبها ووضع قيود مباشرة على هذه الشركات، وأي محاولة منها لتجنب هذه القيود، فإنها تعرض نفسها فورا لعقوبات بناء على هذا القانون، ولأنه يمكن أن يفرض تدفقا كبيرا من الدعاوى القضائية وقيودا خطيرة على نمو هذه الشركات، فلم تقف الشركات الأمريكية مكتوفة وهي المستهدفة أساسا بالقانون، ما دفعها إلى إنفاق نحو 70 مليون دولار للضغط على الكونجرس الأمريكي في 2021.
فمن الواضح أن هناك معركة تشريعية تدور رحاها في العالم بين هذه الشركات المهيمنة وبين المشرعين في جميع دول العالم حول السيطرة على نمو هذه الشركات وإعادة تموضعها، أو أن تدفع للحكومات إتاوات أو غرامات ضخمة على شكل قضايا ضد الاحتكار.