الأزمة الاقتصادية الصينية ..لا يمكن للعالم تجاهلها
تواجه الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم والبلد الذي يسكنه 1.4 مليار نسمة مجموعة من المشكلات الاقتصادية المعقدة. فالنمو الاقتصادي بطيء، ومعدلات البطالة بين الشباب مرتفعة، وسوق العقارات في حالة من الفوضى، والديون الاقتصادية للشركات تتراكم.
تبدو تلك المشكلات مشابهة لمثيلتها في كثير من اقتصادات العالم، مع هذا لا ينفك الإعلام الدولي عن تسليط الضوء على الصداع الاقتصادي الصيني. بالطبع جزء من هذا التركيز يجب فهمه في إطار الصراع الدائر بين الصين والولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة، لكن أيضا جزءا آخر كبيرا ومهما يعود إلى مخاوف عالمية حقيقية من أنه إذا لم يتصرف صناع السياسات في الصين بسرعة وبقوة لوقف تراجع الثقة المحلية والإقليمية والدولية بالاقتصاد الصيني، فقد تنتشر التداعيات الناجمة عما يحدث هناك إلى باقي اقتصادات العالم.
على الرغم من أن الولايات المتحدة ستكون أقل عرضة للخطر من أوروبا وآسيا والأسواق الناشئة المنتجة للسلع الأساسية، من تدهور الاقتصاد الصيني، نظرا لأن الاقتصاد الأمريكي يحركه الاستهلاك الداخلي في المقام الأول، ولا يعتمد على بيع البضائع للصين، فإن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة محصنة من تداعيات الأزمة الصينية، ومن ثم إذا فشل صناع السياسات في الصين من التصرف السريع وإيجاد حلول حقيقية تؤدي إلى استقرار اقتصادي وتفكيك حزمة المشكلات التي تواجهها البلاد، فإن المجتمع الدولي سيتأثر، وإن كان بدرجات مختلفة.
من جهته، يعتقد جيمس كليفرلي الباحث في الاقتصاد الصيني أن المخاوف من وقوع كارثة اقتصادية عالمية نتيجة الأزمة الاقتصادية في الصين قد تكون مبالغا فيها، لكن يمكن أن يكون للأزمة الصينية تأثير "نظرية الدومينو" في الاقتصاد الدولي.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن كثيرا من الشركات العالمية والشركات متعددة الجنسيات مثل شركات السيارات مرسيدس وفولكسفاجن وشركات المنتجات الإلكترونية مثل أبل وسامسونج، جزء كبير من إيراداتها يأتي من مبيعاتها في الأسواق الصينية، وتراجع إنفاق الأسر في الصين سيترك آثاره في القدرة الإنتاجية لتلك الشركات التي ستخفض طلبها على عديد من المواد الخام التي تنتجها الاقتصادات الناشئة، ومن ثم أي تراجع في الاستهلاك في الصين سيترك تأثيره في الاقتصاد العالمي، لكن ليس إلى حد الركود".
ويضيف "لكي يحدث ركود اقتصادي دولي نتيجة تراجع الاقتصاد الصيني، يجب أن تكون معدلات النمو الصينية شديدة الانخفاض أو سلبية، وهذا مستبعد في الأمد القريب".
تدرك الصين بالطبع خطورة الوضع وكيف يمكن أن يؤدي عدم الإسراع في حل مشكلاتها الاقتصادية إلى التأثير في مكانتها العالمية. ويدفع ذلك القيادة الصينية إلى العمل الجاد على تفكيك حزمة التحديات التي تواجهها بنزع فتيل المخاطر المالية الناجمة عن أعباء الديون المتراكمة على الميزانيات العمومية للحكومات المحلية، والعمل على تحفيز الاقتصاد المحلي لاستعادة ثقة الشركات والمستهلكين.
في أعقاب تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن التي وصف فيها المشكلات الاقتصادية الصينية بأنها "قنبلة موقوتة" سحب المستثمرون الدوليون أكثر من عشرة مليارات دولار من أسواق الأسهم الصينية، وكانت معظم عمليات البيع في أسهم الشركات القيادية، ما دفع مجموعة جولدمان ساكس ومورجان ستانلي إلى تخفيض توقعاتها للأسهم الصينية.
من ناحيته، يقول لـ"الاقتصادية"، سيمون فوكس المحلل المالي في بورصة لندن "تتلقى الاقتصادات الآسيوية أكبر الضربات التجارية بسبب وضع الصين الاقتصادي، تليها البلدان الإفريقية، كما تأثرت اليابان بتراجع الاقتصاد الصيني، ففي شهر يوليو الماضي انخفضت صادراتها لأول مرة منذ عامين بعد أن خفضت الصين مشترياتها من السيارات والرقائق الإلكترونية، كما أن محافظي البنوك المركزية في كوريا الجنوبية وتايلاند خفضوا توقعات النمو الاقتصادي لديهما مع انخفاض توقعات النمو في الصين".
ويضيف "لكن الأمر ليس كله شرا، فتراجع الصادرات الصينية يفتح الأفق للصادرات الأوروبية والبريطانية وأيضا الأمريكية، ما يمكن تلك البلدان من تعزيز قواتها في مواجهة التضخم الحالي، كما أن مغادرة رؤوس الأموال الدولية الصين قد تعني أنها ستستقر في أماكن أخرى مثل فيتنام وإندونيسيا والهند".
تبدو وجهة النظر تلك أقرب إلى القناعة السائدة لدى بعض الخبراء بأن انكماش الاقتصاد الصيني لا يعد بالضرورة سيئا بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، إنما الخطر إذا انزلقت الاقتصادات الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة وكندا إلى الركود الاقتصادي وظل الاقتصاد الصيني يعاني معدلات نمو منخفضة، فإن ذلك لن يمثل أزمة صينية فحسب إنما مأزق عالمي، ولا جدال.
ويرى بعض الخبراء أن الصين من الناحية الحسابية تمثل نحو 40 في المائة من النمو الاقتصادي العالمي، كما أن ازدهار تجارتها الدولية يضمن لها تحقيق فائض تجاري عالمي ضخم، لكن ما تصدره الصين أكبر كثيرا مما تستورده، ويعني هذا أن النمو الاقتصادي الصيني تعود فوائده على الصين فقط، وليس الاقتصاد الدولي.
لكن وجهة النظر تلك تتجاهل أن تراجع الإنفاق الصيني على بناء المساكن على سبيل المثال سيؤدي إلى تراجع الطلب العالمي على المواد الخام والسلع الأساسية، وقد أدى تراجع واردات الصين من المواد المستخدمة في عمليات البناء بـ9 في المائة إلى أضرار ضخمة في أستراليا والبرازيل وعديد من البلدان الإفريقية.
لكن المشكلات الاقتصادية التي تواجهها الصين تدفع برولاند جورج الخبير المصرفي إلى التحذير من خطورة أن تؤدي الأزمة الصينية إلى التعجيل بانفجار أزمة الديون العالمية خاصة في الاقتصادات الناشئة.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إنه من المرجح تعويض الصين انسحاب رؤوس الأموال الأجنبية بسحب جزء من استثماراتها الخارجية، وإعادة توجيهها إلى أسواقها الداخلية، كما أن 150 دولة تلقت الأموال والتكنولوجيا الصينية لبناء الطرق والمطارات والموانئ البحرية والجسور، ولذلك فإن التزامها بتلك المشاريع قد يتراجع نسبيا إذا استمرت مشكلاتها الداخلية، أو لن يكون لديها السخاء المالي الذي يمكن ضخه إلى الخارج".
مخاطر المشكلات الاقتصادية الصينية وانعكاسها على الاقتصاد الدولي لا تقف عند حدود القطاع السلعي سواء من الواردات أو الصادرات إلى الصين، فقطاع الخدمات الدولي خاصة الترفيهي من الممكن أن يتضرر بشكل ملحوظ، فالمستهلكون في الصين ينفقون على الخدمات مثل السفر والسياحة أكثر مما ينفقون على السلع، لكن السفر بات الآن أكثر تكلفة بكثير مقارنة بما كان عليه قبل وباء كورونا.
في عام 2019 قام المسافرون الصينيون بـ155 مليون رحلة إلى الخارج وأنفقوا 277 مليار دولار أي خمس إجمالي الإنفاق العالمي من قبل السياح الدوليين، وفي ديسمبر من العام الماضي أعلنت الحكومة الصينية رسميا عن إمكانية سفر المسافرين الصينيين مرة أخرى إلى الخارج، وأثار ذلك التفاؤل في صناعة السياحة التي عانت بشدة خلال الجائحة، وكشفت الأرقام الرسمية أن الحجوزات الخارجية خلال النصف الأول من العام الجاري زادت بنسبة 313 في المائة وكانت سنغافورة وتايلاند وماليزيا بين الوجهات الأكثر شعبية.
مع ذلك لا تزال أعداد المسافرين الإجمالية تمثل جزءا صغيرا من أرقام ما قبل الوباء. وتقول لـ"الاقتصادية"، فلورا ستراجون رئيسة قسم العلاقات العامة في شركة لف تو فيزت، "باعتبارها تمتلك أكبر صناعة سفر في العالم، سيستغرق الأمر بعض الوقت حتى تعود الصين إلى طاقتها بالكامل، وحتى حدوثه سيظل قطاع الضيافة في العالم يعاني".
وتضيف "لكن ربما تكون المعاناة أكثر وضوحا في الولايات المتحدة التي يمكن أن تكون آخر من يشعر بأي انتعاش من عودة السياحة الصينية إلى ما كانت عليه قبل الجائحة، فمع تصاعد التوتر في العلاقات بين بكين وواشنطن بسبب عدد لا يحصى من القضايا، ضخم الإعلام الصيني من خطورة جرائم الكراهية المناهضة للآسيويين في الولايات المتحدة، ومع تباطؤ الاقتصاد الصيني يتوقع تراجع عدد السياح الصينيين إلى الولايات المتحدة، وقد أنفق السائح الصيني في المتوسط 6700 دولار لكل رحلة إلى أمريكا".
يعتقد البعض أنه من المغري المقارنة بين الأزمة المالية العالمية عام 2008 والأوضاع الاقتصادية التي تشهدها الصين حاليا، فالصين أحد محركات النمو الاقتصادي العالمي الكبرى وأي عطب في هذا المحرك سيؤدي حتما إلى وقف جزء أيا كان حجمه من الدورة الاقتصادية العالمية.
لكن المقارنة المغرية قد لا تكون دقيقة أحيانا، فالصين ثاني اقتصاد في العالم، لكن درجة تأثيرها في النظام المالي العالمي لا تقارن بتأثير الولايات المتحدة، وهو ما قد يوجد حالة من الارتياح النسبي بأن الأزمة الاقتصادية الصينية قد تكون مزعجة لاستقرار الاقتصاد العالمي، لكنها لن تكون مدمرة بالدرجة ذاتها للأزمات الاقتصادية الامريكية.