هل يتحمل الاقتصاد الإسرائيلي حربا طويلة؟ .. مكلفة على قطاع الأعمال
تتباين الآراء والتعليقات والتحليلات بين الخبراء الدوليين وفي إسرائيل حول تفاصيل المسار العسكري الذي ستؤول إليه الحرب الدائرة في قطاع غزة. وتختلف وجهات النظر حول ما إذا كان اجتياح الجيش الإسرائيلي للقطاع أو حتى إعادة احتلاله بالكامل يمثل حلا جذريا للقضاء على حماس أم لا؟
وتتباين الآراء أيضا حول مستقبل سلام الشرق الأوسط بعد أن يصمت صوت الرصاص وتتوقف الغارات الجوية الإسرائيلية على سكان القطاع، إذ تتفاوت التقديرات بشأن تأثير الحرب في مسار التسوية السلمية في المنطقة، فهل تمهد الحرب بصرف النظر عن نتائجها الطريق لعملية سلام حقيقية أم ستزيد من تعقيدات الوضع وتجعل سلام الشرق الأوسط أكثر بعدا واستحالة. في هذا كله تتباين الآراء وتختلف وجهات النظر.
لكن الاختلافات في الرأي لا تنفي وجود ما يشبه الإجماع إن لم يكن إجماعا فعليا بين الخبراء في إسرائيل وخارجها أن الحرب بصرف النظر عن نتائجها السياسية والعسكرية ستوجه ضربة مؤلمة للاقتصاد الإسرائيلي يصفه البعض في إسرائيل ذاتها بـ"الكارثة".
ويدفع ذلك للتساؤل لماذا تسود نظرة تشاؤمية داخل إسرائيل ولدى حلفائها الدوليين بشأن النتائج الاقتصادية للحرب، في وقت تسود لديهم ثقة تقارب اليقين - حتى الآن على الأقل - بقدرتهم العسكرية على تحقيق النصر؟ ولماذا يمكن أن تكون النتائج الاقتصادية للحرب الإسرائيلية – الفلسطينية مختلفة عن نتائج حروب إسرائيل السابقة مع العرب؟
في حرب السادس من أكتوبر، العاشر من رمضان عام 1973 وجهت إسرائيل النداء الأكبر في تاريخها لقوات الاحتياطي فاستدعت 400 ألف جندي، وفي حرب اليوم توجه حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ثاني أكبر نداء لجنود الاحتياط في التاريخ الإسرائيلي فتستدعي 300 ألف جندي أي نحو 3 في المائة من إجمالي السكان البالغ 9.8 مليون نسمة.
تلك التعبئة العسكرية الجماعية لا تأتي في الوقت الأمثل للاقتصاد الإسرائيلي، ففي الأشهر الماضية كان انخفاض قيمة العملة الإسرائيلية الشيكل متواصلا، ومنذ بداية العام وحتى انطلاق عملية طوفان الأقصى فقد الشيكل 10 في المائة من قيمته نتيجة حالة عدم الاستقرار السياسي الذي تشهده إسرائيل جراء الاحتجاجات المتواصلة ضد مخطط الحكومة لإصلاح القضاء، بينما حذر البنك المركزي الإسرائيلي من أن الاقتصاد الوطني معرض لخسارة 14 مليار دولار أمريكي بسبب تلك الأزمة.
وإذ كانت تلك التعبئة العسكرية الضخمة تشكل إجراء حاسما للأمن القومي الإسرائيلي من وجهة نظر حكومة نتنياهو، فإنها ووفقا لمحللين إسرائيليين مثلت صدمة لقطاع الأعمال في إسرائيل. فجزء كبير من القوى التي استدعيت للقتال سيترك وظائفه فورا وبشكل مفاجئ لفترة ترجح المؤشرات كافة أنها فترة طويلة.
وسيترك استدعاء هذا العدد الضخم من الأيدي العاملة وإخراجه من العملية الإنتاجية، آخذا في الاعتبار أن قوات الاحتياطي الإسرائيلي مؤلفة أساسا من فئات عمرية شابة ذات إنتاجية مرتفعة، بصمات سلبية على إسرائيل، ولن يظهر التأثير المباشر في ارتباك الحياة اليومية للمجتمع الإسرائيلي فحسب، نتيجة نقص الأيدي العاملة اللازمة لإدارة البنية التحتية للبلاد، لكن أيضا في قطاع الأعمال نتيجة حدوث نقص مفاجئ في القوى العاملة.
لهذا فإن أوضاع كثير من الشركات الإسرائيلية باتت محفوفة بالخطر أو في مأزق حرج نتيجة الفراغ الناجم عن نقص الأيدي العاملة، وستتراجع القدرة الإنتاجية لكثير من القطاعات الاقتصادية الحيوية الإسرائيلية، يضاف لذلك إدراك قادة الجيش الإسرائيلي أن هذا العدد الضخم من جنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم للقتال في حملة عسكرية طويلة الأمد وخطيرة سيكون أمرا مكلفا ماليا ومجتمعيا لأعوام مقبلة، فعلى الحكومة والمجتمع إعادة تأهيل كثير من الجنود الذين سيعودون معاقين من غزة ورعاية أسر الجنود الذين سيلقون مصرعهم هناك.
وتشير أغلب التقديرات إلى توقع حدوث تأخير في كثير من المشاريع نتيجة لغياب موظفين رئيسين تم استدعاؤهم للجيش، كما أن العبء الملقى على عاتق الموظفين المتبقين الذين يواصلون العمل في ظروف صعبة سيؤدي حتما إلى زيادة أعباء العمل وزيادة مستويات التوتر المجتمعي وبما يؤثر في الكفاءة العامة، وسيكون على الاقتصاد الإسرائيلي البحث الدائم عن التوازن بين الضرورات المعقدة للأمن القومي من جانب والجدوى الاقتصادية من جانب آخر، وهو ما سيتجاوز تأثيره بالتأكيد قضية الاستقرار والصمود في الحرب الجارية، ليؤثر في قدرة إسرائيل على المدى الطويل في مواجهة الصراعات المستمرة مع جيرانها.
يقول الباحث الاقتصادي إس. دي. ليام إن الاقتصاد الإسرائيلي قبل اندلاع تلك الحرب كان يتوقع له أن ينمو بنسبة 3 في المائة هذا العام مقارنة بـ6.5 في المائة العام الماضي وذلك وفقا للبيانات الصادرة من بنك إسرائيل، بينما بلغت توقعات وكالة إس آند بي للتصنيف العالمي ألا يتجاوز الاقتصاد الإسرائيلي معدل نمو 1.5 في المائة، وعلى الرغم من أن إسرائيل دخلت تلك الحرب ولديها اقتصاد قوي وفقا لكثير من المعايير، إلا أنه اقتصاد يسير في مسار هبوطي، ومن المرجح أن تسرع تلك الحرب أيا كانت نتائجها من هذا المسار، خاصة أن محرك نموها الرئيس وهو قطاع التكنولوجيا الفائقة يواجه صعوبات جمة، كما تعمل أسعار الفائدة المرتفعة على إعاقة الإنفاق الاستهلاكي.
ويقول لـ"الاقتصادية"، ستعمق تلك الحرب مجموعة من المخاوف التي كانت سائدة في إسرائيل في الفترة الماضية، ويحتمل أن تؤدي إلى ركود اقتصادي هذا العام، فالاحتجاجات التي كانت تشهدها إسرائيل نتيجة معارضة قطاعات كبيرة من المجتمع لخطة الإصلاح الحكومي للقضاء أدت إلى انخفاض كبير في الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا المتقدمة الذي يعد محورا أساسيا للاقتصاد الإسرائيلي، حيث إن 40 في المائة من النمو الاقتصادي يأتي من هذا القطاع.
ويضيف "انخفضت الاستثمارات في شركات التكنولوجيا للنصف الأول من هذا العام بنسبة 68 في المائة وتراجعت إلى 3.7 مليار دولار وهو أدنى معدل منذ 2018، وتراجع أيضا قطاع التكنولوجيا المالية في إسرائيل وكذلك تكنولوجيا المعلومات وسجل أكبر الانخفاضات حيث انخفض بأكثر من 80 في المائة، ولا شك أن تلك الحرب خاصة مع قصف حماس لمدن إسرائيلية رئيسة ستدفع رؤوس الأموال الأجنبية للفرار أو تحاشي الاستثمار في إسرائيل مستقبلا".
مع هذا يرى بعض الخبراء أنه يصعب الجزم بحجم خسائر الاقتصاد الإسرائيلي من تلك الحرب في الوقت الراهن، إذ سيتوقف ذلك على عدد من العوامل من أبرزها الفترة الزمنية للحرب ونطاقها خاصة إذا اتسع القتال وامتد إلى لبنان، وطبيعة المساعدات الدولية التي ستحصل عليها إسرائيل.
من جهتها، تقول لـ"الاقتصادية"، الدكتورة رابيكا جوش أستاذة الاقتصاد الدولي سابقا في جامعة أدنبرة "في الوقت الحاضر من الصعب جدا معرفة كيف ستتطور الحرب، وبعض تقديرات البنوك الإسرائيلية أشارت إلى أن تكلفة الحرب مع حماس ستبلغ 27 مليار شيكل أي ما يعادل سبعة مليارات دولار أمريكي، لكن أعتقد أن هذا التقدير متواضع للغاية، وستراوح التكلفة الاقتصادية ما بين 10- 14 مليار دولار، أما إذا اتسع نطاق الحرب فإنه يصعب حاليا حساب تكلفتها أو الخسائر التي يتعرض لها الاقتصاد الإسرائيلي".
وتضيف "بعض الخبراء الإسرائيليين يستندون في تقديراتهم إلى تكاليف الحروب السابقة التي خاضتها إسرائيل لحساب تقديرات الحرب الراهنة، ويرجحون أن تكاليف الحرب ستبلغ 1.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويمكن أن تؤدي إلى خسائر ضخمة إذا اتسع نطاق الحرب وتسبب في إغلاق اقتصادي واسع النطاق".
تسعى وزارة المالية الإسرائيلية إلى بث روح من التفاؤل في قطاع الأعمال بأن كل شيء سيسير على ما يرام، وأن الاقتصاد الإسرائيلي قادر على مواجهة تكلفة الحرب وخسائرها، لكن بعض المراقبين يشككون في هذا التفاؤل وواقعيته. فحتى قبل الحرب كان عجز الميزانية الإسرائيلية ينمو بسرعة، ويرجع ذلك إلى زيادة الإنفاق الحكومي، وعلى الرغم من أن الديون الإسرائيلية تراجعت من نحو 71 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي 2020 إلى 61 في المائة العام الماضي وسط توقعات بأن يتراجع هذا العام إلى 58.1 في المائة، فإن الأمر سيختلف الآن تماما، فعلى إسرائيل أن تضخ مليارات عدة من الدولارات لتمويل الحرب، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال الاقتراض في وقت تشهد فيه أسعار الفائدة المحلية والدولية ارتفاعا ملحوظا، أو أن تزيد من معدلات الضرائب، وهو ما سيؤثر في كلتا الحالتين على الاقتصاد ومستويات المعيشة.
منذ عملية "طوفان الأقصى" تعرضت سوق الأسهم والسندات المحلية في إسرائيل إلى هزة شديدة، وأعلن البنك المركزي الإسرائيلي أنه سيبيع ما يصل إلى 30 مليار دولار من العملات الأجنبية لدعم الشيكل ومنع انهياره، وتعد تلك المرة الأولى التي يتبنى فيها البنك المركزي الإسرائيلي هذا الإجراء في تاريخ الحروب الإسرائيلية في قطاع غزة، وعلى الرغم من هذا الإعلان فإن العملة المحلية واصلت تراجعها بشكل ملحوظ، حيث انخفض الشيكل الإسرائيلي بنحو 3.1 في المائة ليصل إلى أدنى مستوى له في مواجهة الدولار منذ 2016.
ويعد بعض المحللين الماليين أن انخفاض مؤشرات الأسهم الرئيسة في إسرائيل بنحو 6 في المائة، وتراجع مؤشر تي أيه وأسهم البناء والتشييد والتأمين بشكل أكثر حدة، دليل على أن لهذه الحرب تأثيرا أكبر على الاقتصاد الإسرائيلي من الحروب السابقة، فالأسواق المالية في نهاية المطاف مصدر الطاقة للاقتصاد الإسرائيلي.
يقول لـ"الاقتصادية"، المحلل المالي جيمس جرينفيلد "تقليديا كانت ردود فعل أسواق الأسهم الإسرائيلية في الحروب السابقة مع قطاع غزة محدودة، تستمر لمدة يوم أو يومين على الأكثر، هذه المرة الأمر يمكن أن يكون مختلفا تماما، ومن المرجح أن تجد الأسواق المحلية صعوبة في التعافي السريع، وسيكون طريق التعافي وعرا".
مع هذا يشير جيمس جرينفيلد إلى أن استمرار الحرب يمكن أن يؤدي إلى انتعاش الإقبال على أسهم السندات الحكومية الخالية من المخاطر، وأن يزداد الإقبال على كل من أسهم شركات التصنيع العسكري والقطاعات الصناعية التي يزداد عليها الطلب نتيجة القتال مثل القطاع الصحي والدوائي، كما سيشهد الاقتصاد الإسرائيلي تنافسا واضحا بين تلك النوعية من الأسهم من جانب والدولار الأمريكي من جانب آخر باعتبارهما ملاذات آمنة.
لطالما افتخرت إسرائيل بحروبها الخاطفة ضد جيرانها، لكن منذ بدء حرب لبنان الثانية عام 2006 انتهت حروب إسرائيل السريعة، وبات في متناول خصومها أن يطولوا نطاقا واسعا من العمق الإسرائيلي عبر القصف الصاروخي، وعلى الرغم من أن ذلك لم يؤد إلى وقف كامل للاقتصاد الإسرائيلي، إلا أنه تسبب في إغلاق أجزاء منه، ولم تعد الحرب تدور على الأطراف، وكان لذلك تأثير واضح على أحد أهم القطاعات الاقتصادية في إسرائيل ألا وهو قطاع السياحة، فقد أدى القصف الصاروخي من قبل حماس لمطار بن غوريون المطار الرئيس في إسرائيل إلى إغلاقه لبعض الوقت، كما أن تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأن إسرائيل ستخوض حربا طويلة وصعبة ترك بصمات سلبية للغاية على التدفق السياحي لإسرائيلي.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية"، جورج مايسون الخبير في المجال السياحي "بينما لا يزال مطار بن غوريون في تل أبيب مفتوحا، قامت عديد من شركات الطيران بقطع رحلاتها إلى إسرائيل، وتم إغلاق عديد من الفنادق أو تحويلها لجهود الإغاثة، وأغلقت المواقع التاريخية، والمتنزهات الوطنية والمحميات الطبيعية، وألغت خطوط الرحلات البحرية رحلاتها".
ويضيف "قبل اندلاع القتال كان هناك تفاؤل كبير بشأن أداء القطاع السياحي هذا العام، وذلك على الرغم من أن الإحصاءات تشير إلى أن أعداد السياح لا تزال أقل من أعلى مستوياتها قبل الوباء، إذ لم تفتح إسرائيل أبوابها للسياحة حتى يناير من العام الماضي، وإذا أخذنا في الاعتبار أن السياحة تمثل 2.6 في المائة من إجمالي الربح المحلي لإسرائيل و3.8 في المائة من العمالة، فإننا ندرك بذلك الأهمية القصوى للسياحة في إسرائيل".
ويشير جورج مايسون إلى اعتقاد بعض الخبراء بأن القطاع السياحي الإسرائيلي قد يستعيد جزءا كبيرا من عافيته سريعا مع انتهاء الحرب، وذلك لكون السياحة الدينية من قبل اليهود وبعض الطوائف المسيحية جزءا مهما من مجمل التدفق السياحي في إسرائيل، لكنه يعتقد أن الصدمة التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى وفشل كل من الاستخبارات والجيش الإسرائيلي في الكشف عن العملية مسبقا أو التصدي السريع والفعال لها، أوجد حالة من الصدمة في إسرائيل وبين مؤيديها، وأنه حتى بعد أن تهدأ تلك العاصفة فإن استعادة الثقة في قدرة الأجهزة الاستخباراتية والأمنية والجيش الإسرائيلي في التصدي مستقبلا لأي عمليات من هذا النوع سيجعل من الصعب على القطاع السياحي استعادة بريقه المفقود.