اليابان .. جدارة اقتصادية رغم الديون
حققت اليابان نجاحات باهرة بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصا في المجالات الاقتصادية. ونما الاقتصاد الياباني بمعدلات مرتفعة لعدة عقود، وأعيد بناء البلاد بعد الدمار الشامل الذي خلفته الحرب. وتضخمت ثروات اليابانيين بشكل كبير، فاندفعوا إلى الاستثمار في المجالات كافة، وتدفقت السيولة والقروض بقوة إلى القطاعات العقارية. ونتيجة لذلك ارتفعت أسعار العقارات في اليابان إلى مستويات غير مسبوقة في ثمانينيات القرن الماضي، ما ولد فقاعة عقارية لم يسبق لها مثيل. وانفجرت الفقاعة العقارية عند بداية التسعينيات مخلفة آثارا كارثية في الاقتصاد، وعرقلت نموه السريع، بل دخلت اليابان بعد ذلك في موجات ركود اقتصادي خلال العقود الثلاثة الماضية. وأجبرت الحكومة اليابانية على التدخل لإنقاذ الاقتصاد الياباني، وبذلت جهودا حثيثة من خلال سياسات التحفيز المالي والنقدي. وقادت التوسعات المالية والنقدية وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي في العقود الأخيرة إلى تفاقم العجز والديون الحكومية.
نما الدين العام الياباني خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث ارتفع مما يقارب 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 1991 إلى نحو 262 في المائة في 2021، حسب بيانات صندوق النقد الدولي. تعد اليابان حاليا أعلى الدول المتقدمة دينا في العالم. وتكتسب اليابان وما يجري فيها أهمية كبيرة عالميا، نظرا لاحتلالها مكانة اقتصادية مهمة للعالم، حيث تأتي في المركز الثالث بعد الولايات المتحدة والصين في حجم ناتجها المحلي، كما أنها متقدمة تقنيا، وتطور كثيرا من التقنيات، وتزود العالم بكثير من المنتجات المتميزة بالجودة، وتستورد كميات هائلة من المواد الأولية والمنتجات. لهذا تثير بيانات الدين العام الياباني درجات مختلفة من القلق في أوساط الجهات المختصة والمراقبين داخل اليابان وخارجها، لكنها ليست بمستويات القلق نفسها حول ديون بعض الدول النامية.
تعاني دول متعددة أزمات ديون، مع أن نسبها إلى نواتجها المحلية أقل من نسبة اليابان. أما بالنسبة إلى اليابان وعلى الرغم من ارتفاع ديونها الحكومية إلى 1.3 كوادريليون ين "الكوادريليون يساوي ألف تريليون"، إلا أنها تبدو مسيطرة على أوضاعها المالية والنقدية، وتتمتع بجدارة وقوة اقتصادية. وهذا بالطبع يعود إلى نضج الاقتصاد الياباني وقوة وكفاءة مؤسساته، وعوامل أخرى متعددة أسهمت في رفع ثقة الأوساط المتخصصة بقدرة اليابانيين على التعامل مع حجم الدين الهائل.
لعل من أبرز عوامل استقرار الأوضاع المالية والاقتصادية في اليابان وانخفاض تأثير الديون الهائلة هو كونها مصدرة بالعملة المحلية أي الين، وهذا يجنب البلاد تأثير مخاطر أسعار العملة، حيث إن تراجع العملة لا يؤثر في حجم ديونها وقدرتها على السداد. إضافة إلى ذلك، تخفض ملكية اليابانيين أغلبية الدين من التأثيرات السلبية، حيث تعود معظم مخصصات خدمة الدين إلى الاقتصاد المحلي ولا تتسرب إلى الخارج. وتنخفض ملكية الدين الأجنبية إلى 14.6 في المائة من إجمالي الدين العام، حسب أحدث بيانات البنك المركزي الياباني. ومما يخفف أيضا من مخاطر الملكية الأجنبية للدين هو مكانة الين العالمية، واعتباره عملة صعبة ترغب البنوك المركزية العالمية في الاحتفاظ به. ويمثل الين ما يقارب 6 في المائة من إجمالي احتياطيات البنوك المركزية العالمية من الأصول الأجنبية.
يشير أحدث بيانات البنك المركزي الياباني، إلى استحواذه على نحو 47 في المائة من السندات الحكومية اليابانية، وهذا عامل آخر يخفف كثيرا من أزمة الديون. وأتى ارتفاع نسبة استحواذ البنك المركزي الياباني على الدين العام من سياسات التيسير الكمي التي ابتدعها البنك قبل أي بنك مركزي آخر في العالم، في محاولة منه لتنشيط الاقتصاد الياباني الذي عانى طويلا انكماش الأسعار. وقد يعود جزء كبير من ارتفاع نسبة الدين العام، إلى هذه السياسة التي فاقمت الديون في كثير من الدول الكبرى بعد الأزمة المالية العالمية في 2008.
يسهم تدني معدلات التضخم اليابانية تاريخيا في خفض نسب العائد على السندات الحكومية، وبالتالي تكاليف خدمة الدين الحكومي. إضافة إلى ذلك تستهدف سياسات البنك المركزي الياباني السيطرة على معدلات العائد على السندات، ساعية إلى خفض تكاليف خدمة الدين العام. وتقل معدلات العائد على السندات الحكومية لعشرة أعوام فأقل عن 1 في المائة، بينما لا يتجاوز العائد على السندات طويلة الأجل نسبة 2 في المائة. وتشكل السندات طويلة الأجل الأغلبية الكبرى من الدين العام الياباني، ما يخفف أيضا من مخاطر ظهور أزمة دين عام مفاجئة. وعلى الرغم من انخفاض العوائد على السندات الحكومية إلا أن ضخامة حجم الدين رفعت تكاليف خدمته أخيرا، حيث يقدر بأنها تستحوذ على ما لا يقل عن خمس الإنفاق الحكومي.
حققت الصناعات اليابانية كثيرا من النجاحات خلال العقود الأخيرة، ما رفع طلب العالم على منتجاتها وصادراتها. وساعد الطلب الخارجي المتزايد على المنتجات اليابانية البلاد، على تحقيق فوائض ضخمة في تجارتها الخارجية. وسجلت اليابان تاريخيا فوائض في ميزانها التجاري، ما مكنها من ضخ استثمارات هائلة إلى الخارج. وتعد اليابان مثلا أكبر مالك للسندات الحكومية الأمريكية، بما يزيد على تريليون دولار، ولهذا تتلاشى تقريبا مخاطر الدين الياباني على تجارتها الخارجية وعلى استقرار عملتها. ويعود ارتفاع فوائض اليابان الخارجية، إلى ارتفاع نسب ادخار الأسر والشركات اليابانية، مقارنة ببعض الدول المتقدمة كالولايات المتحدة.