احتواء التضخم .. النمو فيما بعد
لم يتردد جيروم باول، رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" في اتباع موقف صارم حيال الفائدة. والحقيقة أن كل حكام البنوك المركزية الرئيسة حول العالم، يتخذون الموقف ذاته، في إطار مواجهة الموجة التضخمية العالمية. ورغم تراجع معدلات التضخم في الآونة الأخيرة، إلا أنها لم تصل بعد إلى ما يمكن وصفه بـ"ساحة الأمان" للاقتصادات. ولا أحد يتحدث عن إمكانية تحقيق الوصول إلى الحد الأقصى الرسمي للتضخم عند 2 في المائة، لكن ذلك ليس سهلا، ويتطلب وقتا ومزيدا من الإجراءات الاحترازية. لكن الحديث يدور حول مستويات قريبة من هذا الحد، على أمل الوصول إليه في غضون العامين المقبلين، ولا سيما في الأسواق المتقدمة. ولذلك، ستبقى معدلات الفائدة مرتفعة، أو ستظل باقية عند حدودها الحالية العالية.
ولا شك أن التوترات الجيوسياسية التي باتت سائدة على الساحة الدولية، تترك آثارا سلبية في أداء الاقتصاد العالمي عموما، بما في ذلك مساهمتها في تعميق ارتفاع أسعار المستهلكين. ورغم هدوء الضغوط في ساحة سلاسل التوريد، إلا أن ذلك لم يصل بعد إلى المستوى المأمول. يضاف إلى ذلك، أن الموازنات العامة التي تواجه مصاعب جمة، تضغط بدورها على الحراك الاقتصادي العام، بحيث بلغت حدا أثار القلق حتى على صعيد الدول المتقدمة الأكثر مديونية. وفي كل الأحوال، تبقى الفائدة العنصر الأساس في رسم السياسات الاقتصادية العامة في الوقت الراهن، بعد سلسلة من الصعوبات، أضافت جائحة كورونا مزيدا منها على المشهد العالمي.
من هنا، يمكن فهم سياسة "الباب المفتوح" الذي يتبعه "المركزي الأمريكي". فالأولوية حاليا ليست للنمو، رغم أهميته جدا للحراك الاقتصادي، بل بإيصال التضخم إلى المستوى الذي يزيح التوتر من الساحة. ففي آخر قراءة لأسعار المستهلكين بلغ التضخم في الولايات المتحدة 3.7 في المائة. ورغم أن هذه النسبة تعد أفضل النسب قاطبة، مقارنة ببقية الاقتصادات المتقدمة الأخرى، إلا أن المشرعين الأمريكيين يعتقدون بأنها تبقى مرتفعة، ولا يمكن القبول بها، وبالتالي مواصلة التشديد على صعيد تكاليف الاقتراض. وبلغت معدلات الفائدة الرئيسة على الساحة الأمريكية 5.5 في المائة، في حين سجلت في العام الماضي 3.25 في المائة. مع العلم أن الفيدرالي الأمريكي، يرفع تكاليف الاقتراض بصورة متواضعة بلغت في بعض المرات ربع نقطة فقط.
والسؤال الأهم الآن ليس بالنسبة إلى الأمريكيين فقط، بل لأغلبية الدول التي تتأثر بمستويات الدولار، سواء من حيث حساب ديونها، أو تكاليف وارداتها، هذا السؤال هو: متى يمكن للمشرعين الأمريكيين البدء بخفض الفائدة؟ والجواب ببساطة غير متوافر، لأن حاكم الفيدرالي نفسه يعتقد باستحالة معرفة أين سيستقر التضخم في الفصول المقبلة. ولذلك، فإنه يتحرك بحذر شديد، مع كل الانعكاسات السلبية للفائدة المرتفعة على مستويات النمو المتوقعة. فالمسألة ليست محسومة، ومن الواضح أن "السلاح" الوحيد المتوافر أمام المشرعين (وهو الفائدة) سيبقى حاضرا في المراجعات الدورية، لسبب واحد بسيط، هو أنه لا يوجد "سلاح" آخر لمواجهة التضخم. فهذا الأخير، بات منذ أكثر من عامين مولدا للقلق أمريكيا وعالميا، ورفع من الأعباء على كاهل الموازنات العامة هنا وهناك.
السوق الأمريكية، التي تعد الأفضل أداء قياسا بمثيلاتها في الدول الغربية، لا تزال هشة على صعيد التشغيل مثلا، الأمر الذي يستدعي مزيدا من التشديد النقدي. لا يمكن توقع عودة الأمور إلى ما كانت عليه على صعيد تكاليف الاقتراض قبل الموجة التضخمية الراهنة. فمستوى الفائدة كان يقترب من الصفر. لكن المال الرخيص لم يعد له وجود على الأقل إلى ما بعد منتصف العقد الحالي.