ترحيب بالتأمين الصحي الوطني
تواجه دول العالم، دون استثناء، تحديات جمة في مجالات الرعاية الصحية. وازدادت تلك التحديات مع النمو السكاني المتواصل، وارتفاع معدلات الأعمار، وميل المجتمعات بشكل متزايد نحو الشيخوخة، والتطورات المتواصلة في اكتشاف الأمراض، والطلب المتزايد للرعاية الصحية، والتضخم المستمر في تكاليف الرعاية الصحية. تطبق دول العالم أنظمة مختلفة للرعاية الصحية، ومع ذلك لا يوجد بالتحديد نظام مثالي للرعاية الصحية، لكن هناك شبه توافق على ضرورة وجود أنظمة وطنية شاملة للرعاية الصحية، وضرورة تغطية جميع السكان لخدماتها بصورة أو أخرى.
وتبنت المملكة منذ أمد طويل سياسة التغطية الصحية الشاملة والمجانية لجميع مواطنيها وغير المحددة بسقوف مالية وأعمار معينة، وسعت -قدر المستطاع- لسرعة وعدالة توفيرها لجميع فئات المجتمع ودون أي تمييز. هذا ما أكدته المادة الـ31 من النظام الأساس للحكم التي تنص على عناية الدولة بالصحة العامة، وتوفير الرعاية الصحية لكل مواطن. كما يظهر هذا بشكل عملي من خلال نشر مؤسسات تقديم الخدمات الصحية في طول البلاد وعرضها، وتخصيص موارد متزايدة للرعاية الصحية. وتضاعفت ميزانية وزارة الصحة أربع مرات تقريبا خلال الـ16 الماضية، وذلك من نحو 23 مليار ريال في 2007، إلى نحو 81 مليار ريال في 2023. إضافة إلى ذلك، يوفر عدد من الجهات الحكومية الأخرى، وأهمها وزارات: الدفاع والداخلية والحرس الوطني، خدمات صحية لمنسوبيها.
استمرارا للسياسات الصحية التاريخية في مجال الرعاية الصحية يجري التحول نحو نظام شامل للرعاية الصحية يضمن استمرار المنافع الصحية التي يتمتع بها المواطنون، ويسعى في الوقت نفسه إلى رفع أداء الرعاية الصحية التي تواجه ضغوطا متزايدة على خدماتها. ورحب المواطنون كثيرا بتصريحات وزير الصحة الأخيرة، حول تحديد منتصف العام المقبل موعدا لبدء التحول نحو تطبيق "التأمين الصحي الوطني"، والمخطط اكتمال مراحله بعد عامين من منتصف العام المقبل. من أبرز ملامح التأمين الوطني المزمع الشروع في تنفيذه تحمل الدولة تكاليف تمويله، وسريانه مدى الحياة، وتمتعه بسقوف مفتوحة لقيم العلاج، وإلغاء اشتراطات الموافقات المسبقة. من المتوقع أن تحدد التجمعات الصحية العامة كمقدم للخدمات الصحية، وربط الخدمات لكل مواطن بشبكة صحية محددة. وتم في وقت لاحق الحديث عن بدء عمليات تحويل المجمعات الطبية إلى ملكية شركات قابضة التي ستقدم خدمات الرعاية الصحية للمؤمن عليهم.
يبدو أن نظام التأمين الوطني المقترح وسياسات تحويل المؤسسات الطبية الحكومية إلى شركة أو شركات قابضة يهدف للمزج بين إدارة وتشغيل مؤسسات الدولة الطبية على أساس خاص، وفي الوقت نفسه توفير التغطية التأمينية الصحية من قبل الدولة لجميع المواطنين. تشير تجارب بعض الدول المتقدمة إلى أن إدارة المؤسسات الطبية على أسس خاصة أكثر كفاءة في استخدام الموارد وجودة الخدمات من الإدارة العامة، التي تعاني معوقات البيروقراطية وانخفاض الفاعلية الإدارية.
من جهة أخرى، فإن الإدارة الخاصة إذا كانت هادفة للربح فإنها تميل للمبالغة في تكاليف الرعاية الصحية، ما يفاقم التكاليف، ويخفض بالتالي خدمات أو نوعية التغطية الصحية. لهذا من المرجح أن الشركات غير الهادفة للربح أجدى في تقديم الرعاية الصحية، لكن هذا يتطلب توافر طاقات إدارية متمكنة وكفؤة تستطيع إدارة المؤسسات غير الربحية المعظمة للمنافع العامة، وكذلك على الأنظمة وآليات الحوكمة.
ينبغي هنا التأكيد على أن التأمين الصحي وحده لا يرفع بصورة مباشرة جودة الخدمات الصحية، وإنما هو وسيلة لتمويل تقديمها لمستحقيها. وتعتمد جودة الخدمات الصحية أولا، على اكتمال بنيتها الأساسية من مبان وتجهيزات ومعدات وأجهزة ومستلزمات ومواد طبية، وعلى توافر الأطقم الطبية والمساندة المدربة والماهرة، وكذلك على كفاءة وبراعة ومهنية وأخلاقيات طواقم إدارتها، وسياسات ومعايير وأنظمة المراقبة والحوكمة. يبدو أن التأمين الصحي الوطني لا يستهدف الربح، وإنما يسعى لتوفير أفضل وأشمل الخدمات الصحية بالموارد المخصصة له. هذا يستدعي ضرورة الحد من تصاعد التكاليف والمبالغة في تسعير الخدمات الصحية، وذلك من خلال أنظمة وآليات تسعير دقيقة للأدوية والمواد والخدمات والأجهزة الطبية. كما ينبغي العمل -قدر المستطاع- على وجود بيئة مساندة للكفاءة متصفة بالشفافية والأمانة والأخلاق المهنية، ومحاربة الفساد ونشر الوعي والحض على الصحة الوقائية.
لا يخفى على أحد أن تقديم خدمات صحية جيدة وشاملة يتطلب في المقام الأول بنية أساسية كافية وأطقم بشرية كفؤة. ويواجه كثير من المؤسسات الصحية العامة ضغوطا على خدماتها ما يتطلب ضرورة اكتمال مشاريعها وحسن استغلال الرعاية الصحية الأولية، لتسهم بفاعلية أكبر في مواجهة الطلب المتنامي. ومن المتوقع أيضا أن يتزايد الطلب مع مرور الوقت والنمو السكاني وارتفاع معدلات الأعمار، ما يتطلب أيضا توسعات ومشاريع صحية مستقبلية، والتي لا بد أن تغطى تكاليفها بطريقة أو أخرى من خلال التأمين الصحي.