هل بدأت صدمة أسواق الإسكان؟
الإجابة باختصار، نعم. كما أوضحته أحدث بيانات بنك التسويات الدولية BIS، وحسبما كشفت عنه وكالة "بلومبيرج" في أحدث نشراتها، التي أظهرت تراجع مؤشرات أسعار المساكن عالميا بأكثر من 3.2 في المائة خلال النصف الأول من العام الجاري، كأول انخفاض تسجله مؤشرات أسواق الإسكان عالميا منذ 2011، وانخفضت في الأسواق المتقدمة كمتوسط بأكثر من 5.4 في المائة للفترة نفسها، وانخفضت بنحو 2 في المائة في الأسواق الناشئة، وانخفضت أيضا بنحو 9 في المائة منطقة اليورو خلال الفترة ذاتها. ويعزى ذلك الانخفاض في أسعار المساكن بتلك النسب المتفاوتة خلال النصف الأول من العام الجاري، إلى الارتفاع المتسارع الذي شهدته معدلات الفائدة (الرهون العقارية). كانت أغلب البنوك المركزية حول العالم قد دفعت بها بصورة متسارعة ومتتالية، بدأتها قبل نهاية الربع الأول من 2022، واستمرت في وتيرتها الصاعدة تلك حتى الفترة الراهنة، لمواجهة الارتفاع القياسي للتضخم، ووصوله إلى أعلى مستوياته التاريخية منذ مطلع الثمانينيات الميلادية.
اختلفت السياسات النقدية لأغلب البنوك المركزية عالميا في مواجهة ارتفاع التضخم، واتجهت نحو مزيد من التشديد النقدي على العكس تماما مما كانت عليه طوال أكثر من عقد من الزمن من بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، التي اقترنت بتدني معدلات الفائدة وزيادة التيسير الكمي بعشرات التريليونات من الدولارات وضخها في الأسواق عموما، حظيت أسواق الإسكان بنصيب وافر منها، واستمرت تلك السياسات النقدية التحفيزية حتى وصلت ذروتها بالتزامن مع اصطدام الاقتصاد العالمي بالجائحة العالمية كوفيد - 19، وطوال تلك الفترة عاشت أسواق الإسكان حول العالم واحدة من أزهى عصورها، ووصل متوسط نموها خلال 2009 - 2022 على المستوى العالمي إلى 31.4 في المائة، بينما وصل النمو في الأسواق المتقدمة إلى معدلات أعلى ناهزت 46 في المائة، ووصل النمو في الأسواق الناشئة إلى نحو 26 في المائة، ووصل في منطقة اليورو إلى نحو 31 في المائة، فيما سجل معدل نمو قياسي في الولايات المتحدة وصل إلى 76 في المائة، وقد تزامنت تلك الحقبة الزمنية مع أدنى مستويات تاريخية لمعدلات الفائدة، وضخ عشرات التريليونات من الدولارات في أسواق الإسكان العالمية من الائتمان البنكي متدني التكلفة، واستمرت حالة الازدهار تلك إلى أن اصطدمت الأسواق بالإجراءات المفاجئة للبنوك المركزية، وتحولها بوتيرة متسارعة نحو اتخاذ قرارات متتالية وقوية تضمنت رفع معدلات الفائدة، تجاوز عددها سقف الـ317 قرارا برفع الفائدة لأكبر 39 بنكا مركزيا حول العالم، خلال أقل من 21 شهرا منذ مطلع 2022.
سرعان ما دخلت أسواق الإسكان موجة من الركود، خلال الفترة التي أعقبت بداية ارتفاع الفوائد على قروض الرهن العقاري، كان من أولى نتائجها سيطرة التراجع على مبيعات العقارات السكنية، وتراخي نشاط الأسواق نتيجة عزوف المستهلكين، بسبب ارتفاع كل من تكلفة شراء المساكن وفائدة قروض الرهن، التي أظهرت ارتفاع حجم الاستقطاعات الشهرية إلى أعلى مستوياتها التاريخية بالنسبة إليهم خلال أكثر من 15 عاما مضت، ما أدى في مراحل زمنية تالية إلى دخول أسعار المساكن في موجة تصحيحية، وهو ما سبق لعديد من البنوك المركزية توقعه كإحدى النتائج القاسية لارتفاع معدل الفائدة وتكلفة الاقتراض من البنوك على المستهلكين، ولكونه أيضا من ضمن الدوافع الضاغطة على مستويات التضخم المرتفع، التي كانت في مرمى مستهدفات البنوك المركزية لكبح التضخم وإعادته إلى ما دون مستوياته الطبيعية 2 في المائة.
لهذا، فإن ما تتعايش معه أسواق الإسكان عالميا خلال الفترة الراهنة، لا يبتعد كثيرا عما سبق أن أعلنه جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي أمام الكونجرس قبل أكثر من عام من تاريخه، حينما ذكر حرفيا: "أن سوق الإسكان تتباطأ، ويمكن أن تتساقط أسعار المساكن بسرعة إلى حد ما. وهو ما نحتاج إليه في الأجل الطويل، بأن يتماشى العرض والطلب بشكل أفضل، بحيث ترتفع أسعار المساكن إلى مستوى معقول، ويمكن للناس شراء المنازل مرة أخرى، ربما يتعين علينا إجراء تصحيح للعودة إلى ذلك المكان"، جاءت هذه العبارات وسط الموجة الأقوى لرفع "الاحتياطي الفيدرالي" أسعار الفائدة، استهدافا لتهدئة الطلب على نطاق واسع في الاقتصاد الكلي، بما في ذلك سوق الإسكان، وصولا إلى ترويض التضخم الذي ارتفع إلى أعلى مستوياته منذ أكثر من أربعة عقود زمنية.
طالما أن معدل التضخم ما زال بعيدا عن هدف أغلب البنوك المركزية الرئيسة (2.0 في المائة)، فمن المرجح أن تبقى معدلات الفائدة عند مستوياتها المرتفعة الراهنة، ولا يبدو في الأجل القصير حتى تاريخه ما يشير إلى عزم تلك البنوك المركزية بقيادة "الاحتياطي الفيدرالي" بتوجهها نحو الخفض، حتى في حال بدأت بخفض معدلات الفائدة مع نهاية 2024 كما يتوقع عديد من البنوك في الولايات المتحدة، فمن غير المتوقع أمام تماسك الاقتصادات وأسواق العمل أن تعود الفائدة إلى مستوياتها المتدنية جدا التي كانت عليها قبل نهاية 2021، وقد لا تضطر البنوك المركزية إلى مزيد من خفض الفائدة إلا في حال حدوث أزمات اقتصادية أو مالية عالمية، تتطلب من البنوك المركزية اتخاذ تدابير تحفيزية عاجلة، وتحت تلك الاحتمالات ستظل أغلب أسواق الإسكان حول العالم واقعة تحت تلك الضغوط، المتأتية بالدرجة الأكبر من تشديد البنوك المركزية سياساتها النقدية، ورغم أنه قد يحمل معه كثيرا من التحديات على كاهل شركات التطوير العقاري المحدودة الحجم، إلا أنه يمثل آفاقا مستقبلية أفضل لكبرى الشركات باستثناء الصين، وسيسهم في الأجل الطويل في إيجاد مزيد من الطلب الاستهلاكي، كما أشار رئيس "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي في تصريحه المشار إليه أعلاه، الذي سيقترن في ظل المؤشرات التي رسمها صندوق النقد الدولي لمستقبل الاقتصاد العالمي، وما سيسهم بدوره في عودة الاستقرار إلى أسواق الإسكان في منظور العقد المقبل، ضمن مسارات أكثر توازنا واستقرارا مقارنة بما شهدته خلال الفترة التي تلت الأزمة المالية العالمية 2008.