الساحل الإفريقي .. انقلابات وانفلات أمني
ارتفعت وتيرة أعمال العنف والصراع والجريمة في منطقة الساحل الإفريقي، نتيجة للأزمات الأمنية والإنسانية، في ظل عدم الاستقرار السياسي للدول، وضعف مؤسساتها وإمكاناتها، وعلى طول سواحل المحيط الأطلسي والدول المطلة على البحر الأحمر حتى إريتريا بين الصحراء الكبرى والمناطق الإفريقية، تصدر الأوضاع الأمنية المنفلتة مخاطر حقيقية على الواقع الأمني والاقتصادي في العالم.
تعد أزمة الساحل واحدة من أخطر الأزمات في العالم، لكنها الأكثر إهمالا، حيث أدت تداعيات الأوضاع في العام الماضي إلى تغيرات كبرى بالنسبة إلى الأمن الإقليمي والدولي، بعد انتشار ثقافة الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة هناك، وأبرزها وقوع ثمانية انقلابات عسكرية خلال ثلاثة أعوام، التي أدت إلى وقوعها مجموعة من الأسباب والدوافع، أبرزها ضعف أنظمة الحكم في تلك الدول، وظهور وجوه قيادية جديدة تتسم بالشعبوية، التي تستغل فكرة محاربة الاستعمار الغربي.
ضعف المنظمات الإفريقية كان عاملا كبيرا في ظهور الانقلابات، خصوصا انقلاب النيجر، الذي شكل نقطة تحول مفصلية في دور المنظمات الإفريقية وعلى رأسها دول غرب إفريقيا "الإيكواس"، بعد أن كشف الانقلاب عن انقسامات عميقة داخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، ورفض دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر التدخل لمنع الانقلاب.
كما دعمت هجرة الجماعات الإرهابية كـ"القاعدة" و"تنظيم داعش" إلى هناك ضعف الاستقرار في ظل انشغال دولي بالحروب في كل من أوكرانيا وقطاع غزة، إضافة إلى الانشغال الأمريكي بالتحركات الصينية لضم تايوان، ما أتاح الفرصة للجماعات الإرهابية أن تكون منطقة الساحل ملاذا آمنا وبيئة خصبة، لاسترجاع نفوذها بعد انهيار "أحلام الدولة" في كل من سورية والعراق وأفغانستان.
استطاعت التنظيمات الإرهابية أن تستغل الهشاشة الجغرافية للمنطقة، التي تتأرجح بين المناطق الصحراوية الشاسعة، وبين المناطق الاستوائية، وهو ما سمح لها بأن تجد بسهولة مهارب ومخابئ استراتيجية، تصعب مهمة ضبطها ومحاربتها.
إلى جانب هذه الأسباب، شكلت العوامل الاقتصادية المتردية، وغياب الأمن والأمان في تلك الدول حالة عدم ثقة شعبية بالتدخل الأجنبي، خصوصا الفرنسي، وكان الوجود العسكري الفرنسي في بعض دول الساحل الإفريقي ذريعة، وحجة واهية للجهات الانقلابية بتصعيد المواجهة لإخراج المستعمر الفرنسي، كما يصفونه هناك.
نهج القوة الناعمة، والاستياء المتزايد من السياسات الغربية، أسهما في دعم الموقف الروسي، إلى جانب المساعدة على تقديم الأسلحة والأمن والغذاء، في زيادة نفوذه في منطقة الساحل، ويشكل انتشار النفوذ الروسي هناك فرصة لمزاحمة الوجود العسكري الفرنسي، بوجود جماعة "فاغنر الروسية"، ذات الطابع العسكري القتالي، حيث بدأت نفوذها في ليبيا وانتقلت إلى النيجر، وآخذة في التمدد في المنطقة، لمنازعة النفوذ الغربي في منطقة الساحل الإفريقي.
من جهتها ترى روسيا أن وجودها في منطقة الساحل الإفريقي فرصة لإعادة التنظيم الاستراتيجي للقوى، وتقديم نفسها كلاعب دولي فاعل، حيث ينتشر نفوذها في مناطق عدة من العالم، وقلب الموازين لمصلحة الدولة هناك، لتحظى موسكو بفرصة بناء قواعد عسكرية في دول عديدة، وبعدها كان التوجه نحو منطقة الساحل الإفريقي.
ضعف الثقة الأمريكية - الفرنسية المتبادل في النيجر، كان أحد الأسباب في زيادة العنف وعدم الاستقرار، حيث كان الرد الأمريكي متواضعا على الانقلاب، الذي دعمته روسيا ورفضته فرنسا، ما أدى إلى انسحاب القوات الفرنسية وخسارة الشراكات الاستراتيجية، فيما حافظت واشنطن على وجودها العسكري هناك، المتمثل في القاعدة العسكرية في أغادير بعد الإعلان عن انتقالها من العاصمة نيامي، وهي منشأة في وسط النيجر تجري منها الولايات المتحدة مهام استخباراتية واستطلاعية.
إلى ذلك، تقدم الصين نفسها كأكبر مستثمر أجنبي في إفريقيا وتكتسب السيطرة على سوق النفط في منطقة الساحل، من خلال الاستثمارات الاستراتيجية في تشاد والنيجر، انطلاقا من الأهمية الجيوسياسية لمنطقة الساحل، إلى جانب المصالح الاقتصادية والديناميكيات المتطورة للقوة العالمية، التي تشكل ملامح التنافس الدولي الجديد، بعيدا عن مصالح شعوب دول منطقة الساحل الإفريقي.
تتميز منطقة الساحل الإفريقي بتنوعها الإثني، وتعد التركيبة السكانية عاملا رئيسا في تحديد شكل وطبيعة العنف في دول مجموعة الساحل، حيث تسعى أحيانا إثنية محددة في المنطقة إلى فرض هيمنتها على باقي الإثنيات، وهو ما يتطلب تفكيكا أو معرفة لطبيعة التشكيل السكاني في دول المجموعة.
كما يؤثر التغير المناخي في تحرك القبائل أو إعادة تمركزها أو كثافة أعداد اللاجئين منهم، هربا من حالات الجفاف أو التصحر التي تضرب دولهم، ما يجعل حصر أماكنها من الصعوبة بمكان مع غياب التجانس فيما بينها، وهو ما توظفه التنظيمات الإرهابية لمصلحتها سواء في عمليات تمددها أو تجنيدها عناصر جديدة.
في ظل الأوضاع الصعبة التي تعيشها المنطقة، تولد الصراعات في بعض دول الساحل الإفريقي حالة من الفراغ الجيوسياسي ما يسمح بإحياء مشاريع عرقية أو طائفية أو دينية يعاد تدويرها وتصديرها إلى الساحة الدولية على شكل حروب مباشرة أو حروب بالوكالة أو مشاريع أيديولوجية راديكالية متشددة، تدفع ثمنها شعوب دول تلك المنطقة.
وبحسب أحد التقارير المقدمة إلى مجلس الأمن، من قبل ممثلي المنظمات الإفريقية، إن هناك أكثر من 921 ألف مواطن من بوركينا فاسو وحدها أرغموا على الفرار من بيوتهم ومدنهم، ما يمثل قفزة نسبتها 92 في المائة، وأن عدد من تم إبعاده داخليا في مالي نحو 240 ألفا من بينهم 54 في المائة من النساء.
كما يفيد التقرير بلوغ عدد من أرغم على الهرب من موطنه في النيجر نحو 489 ألفا، وشمل ذلك لاجئين مبعدين داخليا ينتمون إلى الجنسية النيجيرية والمالية، وأن هناك ما يقرب من 7,7 مليون إنسان يحتاجون إلى مساعدات عاجلة.
واختتم التقرير بالتحذير من "تصاعد الروابط والصلات بين جماعات الإرهاب والجريمة المنظمة، والمنخرطين في العنف الداخلي لا يمكن تصوره، فالإرهابيون في ظل غياب الدولة في المناطق النائية وأطراف المدن، يواصلون استغلال عناصر عرقية مجهولة الهوية في تطوير أجندتهم وتوسيعها".