من الزكاة والنفط كمصدرين يتيمين إلى التنويع
يمكنني القول إنه لا يوجد مخطوطة تاريخية توضح الحالة الاقتصادية في الجزيرة العربية أقدم من كتاب الخراج، الذي تم تأليفه في بدايات العصر العباسي، وهذه المخطوطة التاريخية لا تمنح "الجزيرة العربية" موارد اقتصادية للدولة إلا ما قرره الشرع من زكاة فقط، فلم تكن هناك فرصة للعشور ولا الجزية ولم يكن الخراج من مصادرها، لهذا انتقلت عواصم الدولة الإسلامية نحو العراق والشام لوفرة أموال الخراج هناك وتأسست دول وحضارات، وبيقت الجزيرة العربية، خاصة "نجد" في أزمة موارد، لكنها صمدت عبر التاريخ تدين بالفضل لأهلها فقط في بقائها وعمارتها وفي اقتصادها، كان الحاكم فيها مسؤولا عن الجميع، فهو يدفع من ماله الخاص ومن مزارعه ومراعيه ما يضمن الحياة الكريمة للمدينة والدفاع عنها، هكذا بقيت لعدة قرون، لكن في 1139هـ (1727) حدثت أول التحولات الرئيسة مع تأسيس الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود وعاصمتها الدرعية، ولا يمكن القول تحت أي حجة أن نشأت هذه الدولة كانت لأي هدف سوى النهضة الحضارية، فلم يكن هناك ما يمكن الطمع فيه، وقد يصعب علينا في ظل الطفرة الاقتصادية اليوم أن نتصور شجاعة أولئك الذين قرروا النهوض الحضاري في أرض خالية من أي مورد اقتصادي مستدام، انطلقت الروح الحضارية وبدأت الجموع تشعر معهم بالذات الحضارية وتستعيد كل ذاكرتها التاريخية، وفي هذا يمكن الرجوع لكتاب أمين الريحاني وهو ينقل ما كتبه أحد المؤرخين الفرنسيين يصف فيه جنود الدولة السعودية في مكة قائلا: إنهم لا يأخذون مال أحد، والفقراء منهم يدفعون قيمة ماء زمزم بالبارود والرصاص، لكن وجود هذه الروح الحضارية الجديدة لم تكن لتسعد الدول العظمى في ذلك الحين وعلى رأسها العثمانية التي كانت تقاتل على الممرات المائية مع اكتشاف ممر رأس الرجاء الصالح على يد البرتغاليين، لكن وحدها الدولة العثمانية التي أرسلت حملاتها، وأخرت بتلك الحروب العبثية استكمال الحراك الحضاري عدة عقود، حتى انتهت طموحاتها تماما في 1319هـ عندما تمكن الملك عبدالعزيز من استرداد الرياض ليبدأ صفحة جديدة من صفحات التاريخ السعودي وحضارته، ذلك أن الملك عبدالعزيز لم يكن مجرد حاكم أو سياسي محنك ورجل حرب فقط، بل كان قائد النهضة الحضارية وبناء الدولة، لذلك ما إن تمكن من استرداد كل ركن من أركان الدولة حتى صدر أمر ملكي بتوحيد البلاد باسم المملكة العربية السعودية عام 1351هـ، وهذه الخطوة بالذات تعد أهم تحول إداري مكن من الإصلاح الاقتصادي الكبير، فقبل توحيد السعودية كان النظام النقدي يعاني تدهورا وفوضى لم يشهدهما من قبل، فهناك العملة العثمانية (المجيدي) والريال الفرنسي (التالر النمساوي) لكن في عام 1343هـ (1925)، كما تشير بعض المصادر أن الملك عبدالعزيز أصدر أول العملات من النحاس كتب عليها (ضرب في أم القرى) ربع قرش ونصف قرش، وتعد هذه هي أول عملة أصدرها المؤسس على المستوى المحلي.
وفي عام 1354هـ ظهر أول نقد سعودي حمل الاسم الجديد للدولة بعد توحيدها، وكان ذلك على الريال الفضي الجديد وأجزائه من فئة نصف الريال، وفئة ربع الريال، وتم إنشاء مؤسسة النقد العربي السعودي، كل هذه الخطوات الجبارة انطلقت جنبا إلى جنب مع حركة التنقيب عن النفط عندما تحدثت الأرض -بفضل الله- وأخرجت كنزها لأهلها الذين صبروا على رحلة المجد ودافعوا عنها، فأبرمت الحكومة السعودية اتفاقية امتياز مع شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال)، وفي 1944، تم تغيير اسم كالتكس إلى شركة النفط العربية الأمريكية (أرامكو)، لتصبح بعد عقود ملكا خالصا للدولة السعودية التي تعد اليوم أكبر مصدر للنفط في العالم وسيدة الطاقة فيه، ومنحت هذه الثروة العظيمة الفرصة لتحقيق حلم الآباء المؤسسين حلم النهضة الحضارية الكبرى التي جاءت علـى مثالية تماما على يد أبناء الملك عبدالعزيز، وبعد ما كان الآباء المؤسسون يدفعون البارود والرصاص في مقابل الماء، أصبح الناتج المحلي للدولة السعودية الآن يتجاوز أربعة تريليونات ريال، في قفزة تاريخية يعود فضلها للاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وما تحقق من نمو في الإنفاق الحكومي تجاوز التريليون ريال، وليتمتع الأبناء بهذه النهضة الاقتصادية بما فيها من دعم للمواطن وأسرته ومنزله، لنبدأ الانتقال من مرحلة الاعتماد على النفط إلى التنويع الاقتصادي والاستثمار في مجالات الحياة كافة.