التنمية المستدامة.. ومسألة القيمة
ينابيع القيمة في حياتنا أشبه بالنجوم في تعددها، فهي تأتي بعطائها من مصادر مختلفة، تشترك معا في إنارة مسيرتنا نحو المستقبل. فعلى سبيل المثال، تعطي دماثة الخلق، مقرونة بحس التعاطف مع الآخرين، قيمة إنسانية تتمثل في حسن العلاقات بين الناس، وتعزيز مشاعر الأمان والاطمئنان في المجتمع. ويقدم الالتزام بالتشريعات، معززا بحس العدالة، قيمة اجتماعية تتجلى في تفعيل الشراكة العادلة بين الناس، وفي الاستجابة لمتطلبات حماية البيئة، والمحافظة على استدامتها. وتمنح المعرفة، واستيعاب معطيات العصر والتفاعل معها، قيمة معرفية، ثقافية وفكرية، توجه الإنسان نحو توخي الموضوعية في النظر في أمور الحياة، واتخاذ القرارات السليمة، والقيام بالأعمال المفيدة. وتقدم نشاطات الزراعة والصناعة والخدمات المختلفة قيمة اقتصادية تلبي احتياجات الإنسان الأساسية من طعام وشراب وملبس ومسكن، كما تستجيب أيضا لبعض متطلبات الرفاهية لديه.
كان، ما سبق، أمثلة عامة لينابيع القيمة توضح أنها تشمل جوانب إنسانية، وأخرى اجتماعية، وثالثة معرفية، ورابعة اقتصادية، ولعل هناك أيضا المزيد. وتجدر الإشارة هنا إلى حقيقة تكامل هذه الجوانب وإسهامها معا في التنمية التي تحقق للإنسان الحياة التي يتطلع إليها. وإذا تساءلنا عن أولويات الحاجة إلى القيم التي تعطيها هذه المصادر في حياة الإنسان، لوجدنا أن الجانب الاقتصادي يأتي في المركز الممكن للجوانب الأخرى، وكذلك المنتفع بها أيضا. فهو مصدر تأمين احتياجات الإنسان الأساسية التي تجعله قادرا على تحقيق التفاعل المنشود مع ينابيع القيمة في جوانبها الأخرى، وهو أيضا المستفيد من البيئة المعرفية والإنسانية والاجتماعية التي توفرها هذه الجوانب.
تمنح ينابيع القيمة المعرفية للإنسان القدرة على العمل وتقديم المخرجات المفيدة، وتوخي الجودة في ذلك، والمنافسة في الأسواق، وتوليد الثروة، بما يُؤدي إلى تفعيل ينابيع القيمة الاقتصادية. وتعطي ينابيع القيمة الإنسانية، وكذلك والاجتماعية، سلاما ووئاما يعزز العمل المهني والإنتاج، ويوفر له البيئة الممكنة لذلك. وفي المقابل تنفق ينابيع القيمة الاقتصادية على اكتساب الإنسان للمعرفة، وعلى تحفيزه على الإبداع فيها، وتأمينه لاحتياجاته الأساسية، كي يكون إنسانا متزنا يتمتع، كما أراد الله له، بحسن الخلق والتعاطف مع الآخرين، وحس العدالة والإيجابية في التعامل مع الآخرين.
وهكذا نجد أن علاقة تفاعل القيمة الاقتصادية مع كل من القيم المعرفية والإنسانية والاجتماعية، هي علاقة تفاعل ذات طبيعة دورانية توليدية، كالعلاقة بين البيضة والدجاجة. ولا بد من السعي إلى الاهتمام بجميع هذه القيم معا كي تبقى هذه العلاقة مستمرة دون انقطاع محققة التنمية المستدامة المنشودة. فعلى الأجيال التي يجمعها عصر واحد الاهتمام ليس فقط بشؤون تنمية ينابيع القيم المعرفية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية في إطار عصرهم فقط، وإنما الاهتمام أيضا بشؤون الجاهزية للتنمية المرتبطة بأجيال العصر المقبل.
علينا، بناء على ما سبق، ليس فقط المحافظة على قدرات ينابيع القيم المختلفة، وإنما العمل أيضا تعزيز القيمة في هذه الينابيع، كي تكون أكثر قدرة على العطاء وعلى الاستمرار في ذلك. ففي شؤون المعرفة علينا التركيز على ينابيع المعرفة الحية القابلة للتطبيق، وتقديم مخرجات مفيدة، وكذلك على ينابيع المعرفة المتجددة والواعدة بريادة آفاق معطاءة غير مسبوقة.
وفي شؤون الاقتصاد علينا المحافظة على القيمة المادية عبر تجنب الهدر، خصوصا في غير الضروريات، مع الموازنة في الإنفاق بين التكاليف والفوائد. ثم علينا الاستثمار في المعرفة الحية والمتجددة، والسعي إلى إيجاد نماذج عمل واعدة، والاستفادة من ذلك في العمل على توليد الثروة وتشغيل اليد العاملة، وفتح آفاق جديدة للمستقبل.
وعلينا بالطبع أيضا أن نهتم بتفعيل القيم الإنسانية، وتعزيز الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية، نحو حياة معرفية واقتصادية ناجحة، في بيئة إنسانية ودودة، وعلاقات اجتماعية متوافقة، ليحيا الإنسان بذلك حياة تتميز بسعادة العيش، وقدرة العطاء والتميز.