استشراف المستقبل أصعب مما نعتقد
استشراف المستقبل لا يعني تنبؤات المشعوذين والرجم بالغيب، بل إنه عملية ضرورية للاستعداد للمستقبل والتعامل معه، فلا يمكن أن يكون هناك تخطيط إستراتيجي، سواء على مستوى الأفراد أو الشركات أو الحكومات، دون أن يكون هناك نوع من استشراف المستقبل، وإلا أصبح التخطيط عشوائيا لا فائدة ولا معنى له. تصور المستقبل من قبل المشرعين ومتخذي القرار كمثال في المجال الاقتصادي أمر ضروري لتحديد أوجه الإنفاق والاستثمار، ووضع الموازنات السنوية وانتقاء التقنيات الواعدة، وهناك من يستشرف المستقبل بالفطرة والحدس وهناك بالطبع طرق علمية تعتمد على البيانات والدراسات الإحصائية للقيام بذلك. وعلى الرغم من أهمية محاولة قراءة ما سيكون عليه المستقبل وما ستؤول إليه الأشياء إلا أن العملية صعبة للغاية، فما أسباب صعوبة القيام بذلك؟ مصدر الصعوبة في قراءة المستقبل يأتي أولاً بسبب غياب المعلومة الوافية والبيانات اللازمة، فكيف يمكن مثلاً عمل تخطيط مناسب لمدينة بعد 20 عاماً إن لم تكن لدينا معلومات عن نسبة النمو السكاني واطلاع على تجارب الدول الأخرى ودراسة لطبيعة الأعمال المستقبلية وسلوك الناس وأنماط الاستهلاك وغير ذلك؟ كذلك هناك أسباب أخرى، فكثير من النظم معقدة ومن الصعب فهم تفرعاتها وتشعباتها وطرق عملها، حتى وإن توافرت لدينا حالياً معلومات وبيانات جيدة عنها، وهذا أمر مشاهد في مجالات التقنية الحديثة، كالإنترنت والذكاء الاصطناعي وغير ذلك من التقنيات الطبية والصناعية التي تتغير باستمرار، ويحدث فيها بين الحين والآخر اختراقات علمية جذرية تقلب الموازين وتغير مسار الأمور.
أحد أبرز من مارس عملية استشراف المستقبل هو كاتب روايات الخيال العلمي إسحاق عظيموف، الذي عمل أستاذاً جامعياً في مجال الكيمياء الحيوية وكتب عدداً كبيراً من الكتب والمقالات التي تتحدث عن المستقبل، أحدها مقالته الشهيرة في صحيفة نيويورك تايمز 1964 التي تطرق فيها إلى المستقبل بعد 50 عاماً، أي في 2014، ولاحقاً ظهر كتابه المشهور بعنوان "التغير: 71 نظرة إلى المستقبل". لكن حتى هذا المفكر العظيم لم يستطع الخروج بقراءات صحيحة عن المستقبل، حيث كثير من توقعاته لم تحدث، وكثير من التطورات المستقبلية لم يفكر فيها على الإطلاق، وبالطبع كان له عدد من التوقعات المثيرة للإعجاب.
إسحاق عظيموف توقع كمبيوتر المستقبل أن يكون جهازاً عملاقاً يتم الارتباط به من خلال شاشات طرفية، كما هو النموذج الشائع في ذلك الوقت، فلم يستطع تخيل الحاسب الشخصي، ولم يتخيل الألياف البصرية، على الرغم من وجودها في المختبرات العلمية في الستينيات الميلادية، فكانت نظرته أن الاتصالات ستتم عن طريق الأقمار الاصطناعية من شخص للآخر. الحقيقة ليس فقط عظيموف من فشل في تصور مستقبل الكمبيوتر، فقد نشرت مجلة "بايت" في 1981 على غلافها صورة لنموذج كمبيوتر المستقبل، حيث جعلته يلبس كالساعة على اليد، لكن جعلت له لوحة مفاتيح قزمة وقرص مغناطيسي يدخل في جانب الكمبيوتر لتغذيته بالبيانات. أي إن خبراء الكمبيوتر في ذلك الوقت، محرري المجلة، لم يتخيلوا أي طريقة لكمبيوتر اليد هذا للحصول على البيانات لا سلكياً، ولا التعامل معه باللمس أو الصوت.
في البداية كان ينظر إلى الكمبيوتر على أنه عقل إلكتروني، ثم أصبح عبارة عن جهاز حسابات كالآلة الحاسبة، وحتى عندما تم طرح أول حاسب شخصي كانت هناك صعوبة في تسويقه وتبرير استخدامه، بسبب صعوبة تصور ما يمكن أن يقوم به هذا الجهاز العجيب! المفكر العلمي عظيموف أسهب في تصور الأعمال التي سيقوم بها الروبوت، الذي كان يتصوره دائماً على هيئة إنسان، بينما معظم الروبوتات اليوم ليس لها شكل إنسان إطلاقاً، وقد كان يعتقد أنه في 2014 ستكون هناك روبوتات في المطبخ تقوم بتحضير أي وجبة يشتهيها الإنسان، وتوقع أن الأجهزة الكهربائية لن تحتاج إلى أسلاك لأنها ستعمل على بطاريات متقدمة تمنحها طاقة كافية، وتوقع أن يكون هاتف المستقبل بالصوت والصورة، وهو متاح بالفعل، لكن قليلا من الناس يستخدمه بهذا الشكل!