اقتصاديات الصحة .. أولوية قصوى للتمويل
أصبح العالم في احتياج عاجل إلى إطار عالمي جديد يؤكد على العدالة ويستفيد من دروس جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). ومع ذلك، مع انعقاد جمعية الصحة العالمية، يلوح فشل البلدان الأعضاء في الوفاء بالموعد النهائي للتوصل إلى اتفاق بشأن الجوائح في الأفق. غير أن تجمع هذا العام يقدم بعض أسباب التعلق بالأمل، لأن البلدان الأعضاء سوف تصوت على قرار بشأن "اقتصاديات الصحة للجميع"، الذي يستنير بعمق بعمل مجلس منظمة الصحة العالمية المعني باقتصاديات الصحة للجميع الذي كنت أتولى رئاسته.
إذا نال القرار الموافقة، فستحصل منظمة الصحة العالمية على تفويض لبدء تنفيذ توصيات المجلس من خلال عملها مع البلدان الأعضاء. بتسليط الضوء على الروابط بين الصحة والاقتصاد، يحدد القرار خطوات بعينها تستطيع المنظمة والحكومات اتخاذها لترسيخ الصحة والرفاهة كأولوية شاملة في صنع السياسات. وقد وجه المجلس الدعوة إلى الحكومات في شتى أنحاء العالم للاستثمار في الصحة للجميع وتنظيم الأنظمة الاقتصادية التي تقدر وتمول وتبتكر وتبني القدرات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
إن تشكيل اقتصاداتنا بحيث تعكس هدف الصحة للجميع أمر بالغ الأهمية لمنع الجوائح في المستقبل، أو على الأقل الاستجابة لها بسرعة أكبر. لكن الأمر يتطلب المواءمة بين أهداف السياسات الصحية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وفي حين أن وزراء الصحة هم الذين سيصوتون في هذه الجمعية، فلا ينبغي أن ينظر إليهم على أنهم المسؤولون الوحيدون. يتطلب تحقيق هدف الصحة للجميع اتباع نهج يشمل الحكومة بأكملها، ويستلزم بشكل خاص اهتمام وزراء المالية والسياسة الاقتصادية.
ما يدعو إلى التفاؤل أن السياسة الصناعية عادت إلى كونها السياسة المفضلة في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يتيح للحكومات الفرصة لتوجيه إستراتيجيات النمو نحو الصحة وغير ذلك من الأولويات الحرجة. وبدلا من التركيز على قطاعات أو تكنولوجيات مختارة، ينبغي لأي إستراتيجية صناعية حديثة أن تركز على مهام اجتماعية وبيئية جريئة، التي سوف تعمل بعد ذلك على تحفيز الاستثمار والإبداع والنمو عبر قطاعات الاقتصاد ذات الصلة.
المشكلة هي أن الضغوط التي تمارسها صناعة الأدوية مستمرة في الحد من قوة هذه الشروط. ففي المفاوضات الجارية بشأن معاهدة الجوائح، على سبيل المثال، تمكنت المصالح الخاصة من عرقلة اتخاذ تدابير مهمة تتعلق بحقوق الملكية الفكرية.
وكما زعمت سابقا، لا ينبغي هيكلة هذه الحقوق لحماية الأرباح الاحتكارية، أو كبح القدرة على الوصول إلى الإبداعات الصحية الحيوية ــ على سبيل المثال، من خلال منع الإنتاج في وقت الحاجة إليه وبأسعار معقولة، أو حجب المعرفة ونقل التكنولوجيا. في حالات الطوارئ الصحية مثل الجائحة، يعاني الجميع -وكل اقتصاد- في نهاية المطاف إذا لم يكن الوصول العادل إلى الاختبارات واللقاحات والمنتجات الصحية المنقذة للحياة أولوية قصوى. في حالة كوفيد-19، توفي ما يقدر بنحو 14 مليون شخص وخسر الاقتصاد العالمي نحو 14 تريليون دولار.
بدلا من ملاحقة النمو الاقتصادي بصرف النظر عن العواقب، يتعين علينا أن نوجه النشاط الاقتصادي نحو أهداف صحة الإنسان ورفاهيته، ونحو ضمان بيئة صحية ومستدامة. يتعين علينا أن نهرب من الفكر الاقتصادي المعيب بشدة الذي سمح لجائحة كوفيد-19 بأن تصبح على ذلك القدر من السوء الذي كانت عليه.
إن تنفيذ مثل هذا الاقتصاد ليس طموحا كماليا. بل هو ضرورة إذا كنا راغبين في تجنب التكاليف البشرية -والاقتصادية- المترتبة على اندلاع جائحة أخرى. وإلى جانب تبني القرار، يتطلب هذا القيادة من منظمة الصحة العالمية ومندوبي البلدان الأعضاء. إذا كان لهدف الصحة للجميع أن يصبح أولوية قصوى -كما ينبغي له- فلابد أن ينعكس ذلك بشكل كامل في تصميم هياكل التمويل العام والسياسات الاقتصادية والصناعية والإبداع.
خاص بـ " الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.