إنهاء جائحة الحماية التجارية يعود بالفائدة على الجميع

             

 تعد منظمة التجارة العالمية بين أعظم قصص النجاح في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فمن خلال إرساء قواعد تستند إلى مبادئ مثل عدم التمييز بين الشركاء التجاريين والمعاملة المتساوية للسلع الأجنبية والمحلية، عملت منظمة التجارة العالمية على تمكين التجارة الدولية من الازدهار، مع تحقيق فوائد بعيدة المدى عملت على تعزيز النمو الاقتصادي وجهود الحد من الفقر. بهذا المعنى، تشبه منظمة التجارة العالمية الأكسجين، فهو ضروري لحياتنا، لكننا نتعامل معه عادة بوصفه من الأمور المسلم بها.
قبل 1800، كانت التجارة الدولية تشكل حصة صغيرة للغاية من النشاط الاقتصادي العالمي، لأن تكاليف النقل والاتصالات كانت مرتفعة ولأن أغلب البلدان تبنت سياسات تجارية بحته. ولكن على مدار القرن التاسع عشر، انخفضت هذه التكاليف، وجرى تقليص الحواجز التجارية، أولا في المملكة المتحدة، ثم في مختلف أنحاء أوروبا، وبدأت حقبة من النمو الاقتصادي غير العادي في الاقتصادات المتقدمة اليوم.
قوطعت هذه الفترة بحربين عالميتين وأزمة الكساد الأعظم، وهي الأحداث التي تسببت، إلى جانب سياسات الحماية التي عملت على تغذيتها، في إحداث انخفاض حاد في نمو التجارة والناتج العالمي. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، وضع صناع السياسات على جانبي الأطلسي خططا لإقامة بنية اقتصادية دولية جديدة، تشكلت إلى حد كبير بفضل رؤى جون ماينارد كينز. في عام 1947، أُسست المنظمة التي سبقت منظمة التجارة العالمية، وهي الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة "اتفاقية الجات" لضمان سيادة حكم القانون في التجارة الدولية.
على مدار نصف القرن التالي، خفضت التعريفات الجمركية، وازدهرت التجارة، وحققت الاقتصادات المتقدمة نموا غير مسبوق ومستداما في الناتج المحلي الإجمالي. في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، حاولت البلدان النامية على نحو متزايد الاستفادة من طفرة النمو من خلال التخلي عن سياسات الحماية. وبحلول مطلع هذا القرن، كان العالم يتعامل مع التجارة المفتوحة، والنمو القوي الذي تدعمه على أنها أمر مفروغ منه.
لكن اليوم، أصبح النظام التجاري الدولي مهددا. فقد تخلت الولايات المتحدة، التي قادت الجات، عن زعامتها، الأمر الذي أضعف منظمة التجارة العالمية بشدة، خاصة قدرتها على تسوية النزاعات التجارية لمصلحة سياسات الحماية. بدأت هذه العملية في عهد إدارة الرئيس دونالد ترمب، ثم استمرت وازدادت حدة في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن. والآن فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية عالية، خاصة على السلع الصينية، وتقدم إعانات دعم ضخمة للصناعات المحلية مثل أشباه الموصلات والألواح الشمسية.
بدلا من مواصلة هذا السباق إلى القاع، يتعين على القوى التجارية العالمية معالجة الخلافات التي تغذي التحول إلى الحماية، بدءا بممارسات التجارة الصينية غير العادلة. تتلخص الشكاوى الأساسية التي تعرب عنها الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات الموجهة نحو السوق في أن الصين تدعم صادراتها بشكل كبير ولا تحترم الملكية الفكرية بالقدر الكافي.
يتمثل مفتاح حل هذه القضايا، واستعادة الزعامة التجارية الأمريكية العالمية، في ضمان تكافؤ الفرص، بما في ذلك ما يتصل بالملكية الفكرية، لمصلحة الشركات الخاصة في الاقتصادات المتقدمة والشركات الصينية المدعومة من الدولة. لتحقيق هذه الغاية، لا بد من تحديث الترتيبات التجارية بموجب منظمة التجارة العالمية، مع تكييف المبادئ الكينزية، بما في ذلك المعاملة المتساوية للتجار الأجانب في المحاكم المحلية، مع سياق القرن الحادي والعشرين.
وإذا استمر النظام التجاري العالمي على مساره الحالي، فسيتخلف النمو الاقتصادي عن إمكاناته الحقيقية، ما يقلل قدرة الحكومات على مواجهة التحديات الاجتماعية والبيئية ويتسبب في تقويض التعاون الدولي في عموم الأمر. وسيصبح العالم أشد فقرا وانقساما وأكثر عُرضة للمخاطر الوشيكة التي تهدد وجوده.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي