ترنح الغرب بين أقصى اليسار وأقصى اليمين
ما أكثر المصطلحات السياسية التي يقع ناظرنا عليها أو تطرق آذاننا في عالم يمر في منعطف صار فيه للغة والخطاب شأنا كبيرا. إننا حقا نعيش عصر اللغة language turn فيه الكلمة والعبارة هي الطاغية والحكم.
أن يعاقب لا بل يقتل أو يدان امرئ بالحاقة ما بعد الموت لأنه نطق مفردة أو عبارة ما ليس أمرا غريبا، وتاريخ الشعوب دون تمييز شاهد على ذلك.
بيد أن عصرنا هذا يختلف. الخطاب -لا بل مفردة في خطاب- تبين ليس مواقف محددة بل إيديولوجيا. دعنا نعرف الإيديولوجيا ومن ثم نلج في خضم موضوعنا، ومقدما أقول إنه شائك.
بعبارات بسيطة، الإيديولوجيا تشير إلى نظم من الأفكار والمثل والمعتقدات التي تسيّر أو توجه مجموعة ما والمنتمين إليها. وتشير أيضا -وفي الأغلب في عصرنا هذا- إلى مجموعة المعتقدات أو الآراء السياسية التي تتحكم أو يحتكم إليها المجتمع، خصوصا النخبة فيه لإدارة السياسة والاقتصاد والمجتمع.
وإن أردنا الإتيان بأقرب مثال للإيديولوجيا فإن الماركسية، والاشتراكية والرأسمالية والشيوعية تعد نماذج أغلبنا على معرفة ببعض كنهها.
والأحزاب السياسية وقادتها عند استلامهم الحكم يحاولون تطبيق الإيديولوجيا التي تؤسس لأفكارهم ومنطلقاتهم. وليس كل إيديولوجيا رحيمة. هناك إيديولوجيا مثل النازية والفاشية والبلشفية وغيرها تذهب بعيدا في ممارسة وتطبيق أفكارها ومعتقداتها حتى إن كانت مآلات ذلك ظلما فظيعا ومأساة لا حجم لها.
عندما تذهب الأحزاب وقادتها صوب التطرف في تطبيق منطلقاتها واستخدام أي وسيلة ممكنة لتحقيق ذلك عندها تقع في أقصى اليسار أو أقصى اليمين من السياج أو مسطرة الإيديولوجيا. ولهذا نطلق عليها بالإنجليزية far right أو far left أقصى اليمين أو أقصى اليسار.
ومفردة "أقصى" معناها إلى أبعد حد، كأن نقول: قاد السيارة بأقصى سرعة. وأفضل مثال عشناه كلنا هو الانتخابات الفرنسية الأخيرة، حيث أفرغت الفزع في القلوب في الغرب في جولتها الأولى التي فاز فيها أقصى اليمين وأرهبت الناس عندما فاز فيها أقصى اليسار في الجولة الثانية.
لماذا يترنح الغرب بين أقصى اليسار وأقصى اليمين بعد عقود طويلة من الوئام والسلام والطمأنينة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في مستهل عام 1945؟ وكيف حدث أن صار لليسار المتطرف ولليمين المتطرف كل هذه السطوة؟
نحن نعيش خشية كبيرة في السويد، البلد الذي لم تتعود أحزابه على الرقص في أقصى أي من طرفي سياج أو مسطرة الإيديولوجيا. هناك حاليا أحزاب قوية من أقصى اليمين تثير الفزع، وهذا ما دفع اليسار الذي مشهود عنه البقاء في وسط السياج إلى الزحف صوب الجانب الأقصى الآخر.
وتتحول الإيديولوجيا إلى خطر مبين عندما يأخذ مريدوها الغلو في تبني معتقداتها والغلو في تطبيقها إن كانوا من في أقصى اليمين أو أقصى اليسار. وتصبح خطرا وجوديا عندما يكون في حوزة المريدين قوة عسكرة او اقتصادية ساحقة، كما هو شأن الغرب اليوم ممثلا في أوروبا الغربية وشمال أمريكا وأستراليا واليابان.
وهناك مشكلة أخرى لا تقل خطورة مع الإيديولوجيا وتكمن في التبني المطلق والطاعة العمياء للقادة والأحزاب السياسية المتطرفة، وأسس هذا التبني تكون محسوسة في ترديدهم للخطاب الذي تبثه أحزابهم وتروج له أدبياتها مثل الببغاوات. ليس هذا فقط، بل يصبح هذا الخطاب الذي ينفث التطرف والكراهية معيار ما يمكن القبول به أو رفضه.
المسافة بين أقصى طرفي سياج الإيديولوجيا آخذة في الانحسار في الغرب، ما يذكّر كثيرا من المفكرين بما سبق أو مهد الطريق لظهور إيديولوجيات قاتلة مثل النازية أو الفاشية أو البلشفية في أوروبا.
وهذا ظاهر في الطريقة التي يستغل فيها اليمين المتطرف الدين في بلدان اعتقد كثيرون قد غلبتها إيديولوجيا العلمانية اللادينية، وكذلك في الطريقة التي يتعامل فيها اليسار المتطرف مع مجموعة الأخلاق الإنسانية في قضايا حساسة.
لكن أقصى اليمين وأقصى اليسار يأخذهما الغلو في كل شيء، فترى صعودا للسلفية والتعصب للدين في أقصى اليمين والتطرف في رفض الدين وقيمه في أقصى اليسار، كما هو الحال مثلا في الولايات المتحدة، حيث المحافظون اليمينيون هم الأكثر تدينا في الظاهر.
نعم الغرب يترنح بين أقصى القطبين، قطب اليمين وقطب اليسار، وأظن هناك الكثير من الصدق في قول بعض المفكرين إن وضع الغرب يشبه ما كانت عليه أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية حيث التطرف صوب أقصى قطب في سياج الإيديولوجيا أدى إلى ظهور النازية والشوفينية وما عقبهما من محارق وكوارث لم تندمل حتى اليوم.
لقد وقع الغرب في فخ الترنح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهذا ما قد يؤدي به والعالم معه في داهية.