مشكلة الدليل الاسترشادي والابتكار

قد يبدو هذا المقال فلسفيا شيئا ما، ولذا أستميح القارئ عذرا في ذلك، إذ لا مفر من البعد الفلسفي لإيضاح وجهة نظري في الأدلة الاسترشادية، فالأدلة الاسترشادية هدفها تقليل التباين في الممارسات لتبسيط الحكم عليها، وقد يجادل البعض بعكس ذلك، وأن الهدف من الأدلة الاسترشادية هو تسهيل الممارسات والتطبيقات.

فبعد صدور لائحة معينة أو نظام في شأن ما، تتكاثر الأسئلة، كيف أفعل هذا، وهل هذا مناسب، وتشتد الأسئلة والخلافات عند التطبيق لتبلغ ذروتها، كلما كانت هناك رقابة أو مراجعة للتطبيق، فيختلف الممارس مع المراجع، وينشأ صراع حول النموذج الصحيح للتطبيق، وتصعد الأسئلة والاستفسارات للجهة التي أصدرت اللائحة أو تُشرف عليها، وللحد من الخلافات وكثرة الاستفسارات تصدر الجهة المشرفة دليلا استرشاديا، وهذا يقودنا إلى نفس الهدف الذي أشرت له، وهو تضييق التبيان في الممارسة.

لكن المشكل في الأمر ليس التباين نفسه بل في تبرمنا من الاختلاف في الرأي وعدم قبول التباين والرأي الآخر، تلك هي المشكلة الأساس التي لن تعالجها الأدلة الاسترشادية. كيف ذلك؟ المشكلة الحضارية ليست في التباين نفسه، ولم تكن كذلك يوما، بل هذا صحي جدا وفعل حضاري حقيقي، فالاختلاف يعني التنوع، يعني الفكر، يعني الحرية، بينما التبرم منه وعدم قبوله يعني الانغلاق. ليست الأمور مطلقة حتما، لهذا نقبل السياسات العامة والأُطر العريضة التي يمكن العمل في ظلالها بحرية تامة، لكن عندما يتم تضييق الأطر والسياسات بنماذج إرشادية مغلقة فإن أُفق التفكير ومساحات الحرية تضيق، وهذا يقتل الإبداع والفعل الحضاري.

في كتابه عن تدهور الحضارة يصف شبنجلر الحضارة (أي حضارة كانت) بعدة مراحل كأنها كائن حي، تمر بالطفولة ثم النضج ثم التدهور، والعلة الفاعلة في ذلك هو مدى عمق الروح الحضارية لها، ومدى إدراك الناس لهذا العمق، فمثلا الطفل الذي يرى القمر لا يدرك الأبعاد والامتداد في أول الأمر، فإذا بدأ يشعر بالأبعاد أدرك الكون الخارجي من خلال رمز الامتداد وهذا ميلاد الروح الحضارية عنده، التي تقاس بمدى هذا الامتداد وعمقه، وهكذا فإن لكل حضارة امتدادا وعمقا يبرزان على شكل رمز أو عدة رموز في الفن والمثل العليا والأخلاق، وبمدى عمق هذا الرمز وبعده تستطيع الحضارة أن تمتد وأن تؤثر، فالحضارة ذات العمق الكبير لديها مساحات واسعة جدا من الإبداع وإنتاج الرموز الفنية والحضارية في كل المجالات، ومنها الاقتصاد والإدارة، ومع التطور في مراحل الحضارة تتحول الرموز في كل الموضوعات إلى طائفة من القواعد الميتة والصيغ الجامدة من كل حياة، وتطغى نزعة الصنعة (المهنية) التي تتغلب على روح الفن والإبداع لتنشر التقليد فقط، وبذلك تبدأ الحضارة تبهت شيئا فشيئا، مع تحول روح الفن والإبداع في كل المسارات إلى قواعد ذات بعد علماني صرف (يدرس وتمنح له شهادات واختبارات مهنية)، يعمل وفقا لمعايير صارمة دقيقة يعد الخروج عنها هو الخروج عن العلم والتخصص. ولأن العلم (وفقا لرأي شبنجلر وغيره) ليس حقائق خالدة بل يتأثر بالحضارة التي نشأ فيها، والعلم كالدين يقوم على عقيدة آمن بها العلماء كصورة للطبيعة التي رأوها وفقا للروح الحضارية التي يعيشون فيها، ولذلك إذا استحال العلم إلى قواعد محفوظة ينقلها الأستاذ الأكثر حفظا إلى طلابه الحفاظ بلا مهارات ولا أدوات إبداع توقف عن التطور، وبلغ منتهاه. ولعل في هذا ما يفسر التباين بين الجامعات والأساتذة فيها.

الأدلة الإرشادية هي نقطة تحول في الإبداع والروح الحضارية وانتقال العلم نحو التقعيد نحو إلغاء التباين والمخالفة والإبداع، ما يعوق التطور، خاصة أن القائمين على إعداد هذه الأدلة هم من المتخصصين الذين لهم تفسير علمي ليس له (من طبيعته) صفة الخلود، لكنهم من خلال الأدلة وقواعدها يضعون له هذه الصفة التي تمنع غيرهم من الحركة، ويتقدم المقلدون والأتباع، ويختفي المبدعون وينزوون خوفا من اتهامهم بالجهل وعدم الدراية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي