دراسات الاستشراف والتقنيات الواعدة

يحتاج الحديث في أي موضوع من الموضوعات العلمية والتقنية، ليس فقط إلى رصد حالته الساكنة التي ترى صورته في لحظة من الزمن، لكن إلى التعرف على صورته المُتحركة أيضاً، التي تأخذ عامل الزمن في الحسبان، لترى تطور حالته في الماضي، وتستشرف آفاق تطورها في المُستقبل. ويتطلب رصد الحالة الساكنة البحث في حقائق الموضوع المطروح، في إطار محاور تُحيط به من جميع الجوانب، بما يُعبر عنه بدائرة كاملة تشمل 360 درجة. أما رصد الحالة المُتحركة، فيقتضي دراسة حقائق تطور الموضوع في الماضي، مع إدراك شؤون الحاضر، وصولاً إلى استشراف آفاق المستقبل، وذلك بالطبع في إطار النظرة الشاملة التي تُحيط بالموضوع من شتى جوانبه.

لعل ما سبق يُعبّرُ باختصار عن مُتطلبات استشراف المُستقبل في أي موضوع من الموضوعات التي يُمكن أن تُطرح في هذا المجال. وتجدر الإشارة هُنا إلى أن دراسات استشراف المُستقبل ليست دراسات مُستقلة، بل هي دراسات تأسيسية ضرورية، لما هو أبعد منها، والمقصود هُنا هو التخطيط للمُستقبل. يستند هذا التخطيط إلى الدراسات الاستشرافية، ويسعى إلى التأثير في أحداث المُستقبل، والتحكم في تطوراتها، ضمن إطار مُحدد، من أجل أهداف تُحقق طموحات منشودة. ولا شك أن مُتطلبات العصر الذي نعيش فيه، بما يشهده من تطور علمي وتقني مُتسارع، وغير مسبوق، تقضي بأن نقوم باستشراف المُستقبل في شتى الموضوعات الحيوية، ونستفيد منها في التخطيط السليم للمُستقبل، ومن ثم العمل، وفق الخطط التي يُعطيها، على تحقيق التطلعات والرؤية التنموية المنشودة.

إذا كان ما سبق، يرسم نظرة تجريدية مُقتضبة لمسألة الاستشراف، ودورها كتمهيد للتخطيط السليم بعدها، فإن هُناك تقريراً مفيداً يُقدم دراسة استشرافية للتقنيات المُبتكرة الحديثة، صدر العام الماضي 2023، عن المرصد الوطني التابع لهيئــة تنمية البحث والتطوير والابتكار، بالتعاون مع خبراء مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية. يتمتع التقرير بمنهجية علمية في دراسته، ويُقدم نتائج مهمة تستحق الأخذ في الحسبان في التخطيط للمُستقبل.

بدأت منهجية البحث بمراجعة حقائق التقنية حول العالم، باستخدام مصادر مُختلفة، واستخلاص إشارات من التقنيات المُختلفة، بشأن أهميتها وتطورها، ثُم اختيار الأكثر أهمية من هذه الإشارات، إضافة إلى تصنيف الاختيارات، ضمن أولويات تعتمد على 6 معايير رئيسة. ارتبط أول هذه المعايير بالأثر الإستراتيجي للتقنية ودورها في تقديم حلول للتحديات العالمية. واهتم المعيار الثاني بدرجة الحاجة إلى هذه التقنية، في إطار القطاع الذي ترتبط فيه. ثُم ركّز المعيار الثالث على حالة التقنية في السوق، ومدى إقبال المُستهلكين عليها. وأتى المعيار الرابع مُكملاً لسابقه، ليهتم بحجم الأثر الاقتصادي للتقنية، والفوائد التجارية المرجوة منها. وأبرز المعيار الخامس مدى نضج التقنية ومدى جاهزيتها لتقديم الفوائد المرجوة. وجاء المعيار السادس أخيراً ليركز على أثر التقنية في المدى الزمني الطويل.

طرح التقرير في نتائجه "30 تقنية" تستحق الاهتمام، وترتبط بـ4 مجالات رئيسة شملت: الصحة؛ والبيئة والاستدامة؛ والطاقة والصناعة؛ إضافة إلى مجال تقنيات اقتصاد المُستقبل. وأبرز التقرير منجزات سعودية، في كُل من هذه المجالات، تُحفز على تفعيل العمل فيها وتقديم المزيد بشأنها. وكأمثلة على التقنيات المطروحة، سنقدم في التالي التقنيات التي صُنفت أولى في تسلسل أهميتها ضمن المجال الذي وردت فيه، وسنطرحها في نطاق تسلسل الأولويات التي أوردها التقرير.

بين التقرير أن التقنية الأولى في مجال تقنيات اقتصاد المُستقبل تتمثل في منصات الذكاء الاصطناعي التوليدي. وأن الأولى في المجال الصحي هي من نصيب تقنية بنكرياس صناعي لعلاج مرض السكري. أما الأولى في مجال البيئة والاستدامة، فكانت تقنية تحويل المواد البلاستيكية والغازات الدفينة إلى وقود مُستدام. وبرزت تقنية تحسين كفاءة استخلاص الليثيوم، كتقنية أولى في مجال الطاقة والصناعة.

لا شك أن في معطيات التقرير، المطروح فيما سبق، فائدة معرفية كبيرة في استشراف المُستقبل، كذلك في التأسيس للتخطيط وتوجيه مسيرة السعودية، في البحث والتطوير والابتكار، نحو الإسهام في تنمية فاعلة مُستدامة نتطلع إليها. وقد قدم هذا المقال نظرة عامة أولية إلى المجالات الـ4 الرئيسة الواردة في التقرير، دون مناقشة مضامينها. ولعلنا نعود إلى هذه المُناقشة في مقالات المقبلة بمشيئة الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي