هل هؤلاء خبراء إستراتيجيون؟
من النادر أن تخلو نشرة إخبارية في القنوات العربية الرئيسة من إجراء لقاء مع خبير أو محلل عسكري استراتيجي. لا مشكلة هناك في أن يدلو الناس بدلوهم في قضايا عالمنا العويصة المستعصية على الحل، لكن أن نقدم أنفسنا ويتم تقديمنا كمحللين أو خبراء عسكريين أو اقتصاديين أو سياسيين استراتيجيين فلعمري إن هذا شأن يستحق الوقوف عنده.
تفشت ظاهرة اللجوء إلى "الخبراء الاستراتيجيين وفي مقدمتهم تأتي خانة "الخبراء العسكريين الاستراتيجيين" مع الحرب الروسية-الأوكرانية في شباط عام 2022، ومنذ حينه أفرط الإعلام العربي في الاعتماد عليهم وتقديمهم بصفة خبراء أو محللين استراتيجيين.
بالطبع لا ضير أبدا أن يستأنس الإعلام بالخبراء لتسليط الضوء على أحداث قد يصعب على المتلقين سبر أغوارها، لكن يبدو أن هناك منافسة شديدة في الإعلام العربي في إطلاق صفة خبير استراتيجي حيث يلحق المصطلح بأي ظهور في الشاشة لشخصية قد عملت في حقل ما.
إن كنت أعمل في حقل الإعلام فهذا لا يحولني إلى خبير أو محلل استراتيجي في الإعلام وقس على ذلك شتى الاختصاصات. فإن كنت ضابطا رفيعا في الجيش فهذا لن يحولني إلى محلل أو خبير عسكري استراتيجي.
أخشى أن الإعلام العربي ذهب بعيدا في إطلاق هذا اللقب الرفيع إلى درجة أنه أفرغه من معناه وصار أشبه بالنكتة أو الطرفة لدى قطاع عريض من القراء والمشاهدين. قد يرى البعض أنني قسوت على الإعلام العربي، لكن دعنا نناقش بموضوعية وهدوء كي نرى إن كانت قسوتي في محلها.
عندما يقدم الإعلام العربي خبيرا أو محللا استراتيجيا لنقل في الشؤون العسكرية وهو يناقش الحرب في أوكرانيا أو الحرب في غزة، فإن الخبير المسكين هذا (نعم مسكين) دائما تطابق آراؤه ووجهات نظره القناة التي يظهر فيها، أي إنه يمد ويمط الاستراتيجية والخبرة والتحليل كي يتماشى مع نهج الوسيلة الإعلامية التي يتحدث إليها ويتساوق تماما مع نمطية الخبر الذي أذيع وطُلب منه التعليق عليه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الوسيلة الإعلامية العربية التي تستكتب أو تطلب من خبرائها أو محلليها الاستراتيجيين التعقيب على الأحداث لا تقبل ظهور محلل أو خبير استراتيجي (إن جاز لنا التعبير) آخر قد يعاكس الطروحات ووجهة النظر التي يقدمها خبيرها أو محللها الاستراتيجي الذي تنتقيه كل مرة.
هنا تدخل مسألة الموضوعية والنزاهة والرأي الآخر. أي إعلام، عربي كان أم غربي أم غيره، لا يقبل ظهور أو وجود الرأي المضاد أو التعقيب الذي قد لا يتماشى مع توجهاته لا يعتد به مهما كانت سعة انتشاره وتأثيره. وهنا أيضا لا أخص الإعلام العربي؛ الإعلام عامة صار أحاديا، أي يركز على تقديم وجهة نظر واحدة مستبعدا وجهة النظر الأخرى.
يجب أن يقدم لنا الإعلام المحاورين على أنهم خبراء أو محللون استراتيجيون كما يفعل الإعلام العربي فإنني أخشى أن هناك كثيرا من الضحك على الذقون.
لماذا الضحك على الذقون؟ لأن في رأي المتواضع لا يرقى أغلب الذين أستمع إليهم أو أقرأ لهم إلى مرتبة خبير أو استراتيجي أو حتى محلل.
ولا يخفى أن مصطلح خبير أو محلل استراتيجي جرت إعارته من الإعلام الإنجليزي لكن في إمكاني القول إنه من النادر أن قرأت أو طرق سمعي أن مثلا قناة غربية قدمت شخصا على أنه "محلل أو خبير عسكري استراتيجي" strategy expert or analyst.
وقد يصح أن نطلق مفردة "محلل" على أي كان بمعنى أن المرء يقوم بعملية تحليل لحدث ما حسب وجهة نظره، لكن أن نمنح صفة "خبير" لشخص ما فهذا معناه أن له خبرة عملية ونظرية وممارسة طويلة وعلما ومعلومات واسعة جدا في حقل محدد.
حتى الآن لا بأس، لكن أن نلصق صفة "استراتيجي" بالخبير أو المحلل، أظن هنا نقترف خطأ كبيرا. أن نقول إن فلانا "استراتيجي" أي strategist هنا يجب أن يكون للمعني خبرة لا حدّ لها جدا حيث تمكنه من وضع خطط نظرية عملية (قابلة للتطبيق) لتحقيق أهداف مستقبلية يصعب أو قد يكون من المستحيل الوصول إليها أو تحقيقها في غيابه وغياب استراتيجيته.
نصيحتي للإعلام العربي الكف عن لصق صفة "استراتيجي" بأي من المحللين الذين يتكئ عليهم لإلقاء الضوء على الأحداث التي يقوم بتغطيتها.