خفض للفائدة.. لكنه لن يروي عطش الأسواق

أخيرا أطلق رئيس الاحتياطي الفيدرالي إشارته أو تلميحه إلى حلول موعد تعديل السياسة النقدية في الاجتماع المقبل 17 - 18 سبتمبر من العام الجاري، إلا أن ما أحبط "عطش" الأسواق إلى الخفض المأمول منها لتكلفة الاقتراض، اصطدامه بعبارة جيروم باول بأن "توقيت ووتيرة تخفيضات أسعار الفائدة سيعتمدان على البيانات الواردة وتطور التوقعات وتوازن الأخطار"، ولهذا لم يذهب عائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات بعيداً عن أعلى مستوياته منذ منتصف 2008، حيث لا يزال مستقرا عند أعلى من 3.8 % لحظة تدوين هذا المقال، ويعكس جزئيا عائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات توقّع السوق لسعر الفائدة المحايد، إضافة إلى علاوة الأجل وبعض العوامل الأخرى قصيرة الأجل، ويعني سعر الفائدة المحايد المشار إليه هنا؛ سعر الفائدة الذي يجب أن يسود في بيئة الحد الأقصى من التوظيف ومعدل التضخم المستقر الثابت، وأنه أيضاً في حقيقته يمثّل مستوى تكلفة الإقراض التي لا تحفز النشاط الاقتصادي ولا تقيّده في الوقت نفسه.

إذاً؛ وحال سعر الفائدة المحايد يتأرجح في المرحلة الراهنة فوق 3.8 %، فهو بكل تأكيد بعيد جدا عن سعر الفائدة المحايد طويل الأجل نحو 2.5 %، الذي يتشكل نظريا من مجموع سعر فائدة حقيقي يبلغ 0.5 %، مضافا إليه معدل تضخم مستهدف عند 2 %، وفي ظل الغيوم القاتمة لكثيرٍ من المؤشرات والبيانات الاقتصادية، التي تقف حائلا بين قيادات البنوك المركزية حول العالم من جهة، ومن جهة أخرى أوضاع الاقتصادات والأسواق عموما، فذلك ما سيدفع بالبنوك المركزية نحو تهدئة إجراءاتها تجاه خفض أسعار الفائدة، والسير بها بسرعة أدنى بكثير مما تأمله وتتوقعه الأسواق بشكل عام.

وبناء عليه فإن رؤية المستثمرين والمستهلكين على حد سواء ستبقى مقيدةً بمسارٍ بطيء جداً حتى الوصول إلى نهاية طريق استقرار أسعار الفائدة عند مستويات متدنية، وأن المدة الزمنية لأجل تحقق ذلك سيستغرق أعواما طويلة قد تمتد إلى عقد أو عقدين زمنيين، وهذا بكل تأكيد يحمل معه ضغوطاً شديدة الوطأة على معنويات الجميع وعلى الأسواق، ولا يوجد مخرج من هذا المسار المتحفظ جدا من قبل البنوك المركزية، إلا أن تستجد بيانات اقتصادية مؤكدة تشير إلى دخول الاقتصادات الكبرى في ركودٍ شديد، واقترانه بارتفاع معدلات البطالة وانخفاضاً ملموساً في حجم الإنفاق الاستهلاكي، الذي سيشكل حدوثه صدمةً لن تتحملها الاقتصادات والأسواق خلال الفترة الراهنة، خاصة مع ارتفاع حجم الديون السيادية والشركات والأُسر، التي وصلت هي بدورها إلى أعلى مستوياتها التاريخية، بعد أن تضاعفت بين 3 و5 مرات خلال أقل من 5 أعوام من بعد الجائحة العالمية لكوفيد-19.

نعم؛ التقطت الأسواق والجميع إشارة كبير البنوك المركزية ممثلا في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ببدء تحول السياسة النقدية، واتخاذ قرارات أول خفض لأسعار الفائدة في الشهر المقبل، إلا أنها أيضا أدركت جيدا أن الخفض لن يكون بذلك القدر الذي سيروي "عطش" الأسواق، ذلك أن التضخم رغم النجاح في كبحه طوال العامين الماضيين، إلا أنه لم يصل بعد إلى مستواه المستهدف، في الوقت ذاته الذي بدأت المؤشرات الاقتصادية المتوافرة وعلى رأسها أسواق العمل، تظهر بداية اعتلالها وضعفها وقد تخرج عن توقعات البنوك المركزية بحدوث الركود الناعم المنشود.

وفي مجمل المشهد الذي تقف اليوم البنوك المركزية أمامه، وتحاول من خلال رؤيتها المتحفظة أن تقف على سلةً من السياسات المتوازنة -رغم استحالته- لا تسمح بعودة التضخم إلى الارتفاع مجددا، وفي الوقت ذاته تقوم بتحفيز الاقتصاد الكلي قدر الإمكان وحمايته من الركود الشديد، فالجميع سيكون واقفاً على قدمٍ واحدةٍ فقط، وتزداد الأخطار بالتأكيد في ظل الارتفاع المتصاعد لوتيرة الاضطرابات الجيوسياسية الدولية الراهنة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي