ما لا يدركه جيه دي فانس بشأن التجارة الحرة

الاقتصاد الكفء قادر على إقصاء الشركات الأقل كفاءة من السوق وهو مبدأ لا يحظى بالاهتمام الكافي

الكفاءة، من الناحية الاقتصادية، تشير بشكل عام إلى التحسينات، بمعنى زيادة الإنتاج، وتحسين الخدمة، وتسريع الابتكار. لكن هناك تعريفاً آخر للكفاءة لا يحظى بالاهتمام الكافي، إذ أن الاقتصاد الكفء هو أيضاً الذي يتميز بقدرته على إخراج الشركات الأقل كفاءة من السوق.

الفروق بين الشركات الأكثر إنتاجية والأقل إنتاجية يمكن أن تكون كبيرة بشكل مذهل. وفقاً لإحدى التقديرات، في الولايات المتحدة وحدها، يمكن أن تكون الشركات الأكثر إنتاجية في قطاع ما أكثر كفاءة من حيث التكلفة بمقدار مرتين إلى 4 مرات مقارنة بالشركات الأقل إنتاجية. بالنظر إلى حجم هذه الفجوات، فإن أي توسع في التجارة أو الابتكار الذي يسهّل عملية استبدال المنتجين الأقل كفاءة قد يساعد القطاع على تقليص جزء كبير من تكاليف الإنتاج.

التجارة بين أمريكا وكندا

قبل اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا، كانت الشركات الأمريكية عموماً أكثر إنتاجية من نظيراتها الكندية. فتح التجارة بشكل كامل زاد إنتاجية قطاع التصنيع الكندي 8.4 % في فترة زمنية قصيرة، ويرجع ذلك في الأغلب إلى اختيار الشركات الأكثر كفاءة وإعادة تخصيص مزيد من الإنتاج لها.

في ضوء الأنشطة التي أمارسها -وهي الكتابة، والتدريس، وإنتاج الفيديوهات- فإنني أرى أن بعض الأشخاص في هذا القطاع أكثر إنتاجية بـ10 أضعاف أو أكثر من غيرهم. إذا تم استبدال بعضنا بالذكاء الاصطناعي التوليدي، فمن المرجح أن يكون المبدعون الأقل إنتاجية هم من سيخسرون وظائفهم.

قد تتساءل كيف يمكن للمنتجين الأكثر والأقل إنتاجية أن يتعايشوا معاً، مع تقديم أنواع السلع والخدمات نفسها. الجواب هو أنه يتعذر على الشركات المتفوقة أن تستحوذ على كل أعمال الشركات الأقل كفاءة. ليست كل السلع والخدمات قابلة للتوسع بسهولة، ويمكن أن تكون الشركات الأكثر إنتاجية مقيّدة بالموهبة أو بالرغبة في الحفاظ على التركيز. (فلا يكفي أن يكون توم كروز النجم السينمائي الأكثر شعبية لكي يشارك في كل فيلم). هناك أيضا عامل الجمود، الذي يشير إلى أن عديدا من العلاقات التجارية تستمر بسبب الروابط الشخصية. فالشركات الأقل إنتاجية لا تختفي ببساطة بسبب الابتكار أو المنافسة الجديدة.

إقصاء الأقل كفاءة

واحدة من الفوائد غير المعترف بها بشكل كافٍ للتجارة الحرة هي أنها تسهم في إقصاء المنتجين الأقل كفاءة من السوق. الإنتاجية الأمريكية تحقق أداءً جيداً جزئياً لأن الولايات المتحدة سمحت للمنافسين الأجانب بالدخول ومن ثم ضبط الأسواق والشركات المحلية. هذا أحد الأسباب التي تجعل اقتراح دونالد ترمب بزيادة التعريفات الجمركية فكرة سيئة، على الرغم من إصرار جيه دي فانس على العكس. التجارة الحرة يمكن أن تساعد على خفض التكاليف.

الفروق في الإنتاجية بين الشركات تساعد أيضاً على تفسير جوانب أخرى من الاقتصادات الحديثة. قبل نحو 4 عقود، أشار روبرت سولو إلى أنه يمكنك رؤية الحواسيب في كل مكان، لكن ليس في إحصائيات الإنتاجية. لماذا كان ذلك؟ حسناً، يمكن للحواسيب أن تؤدي الكثير من الأعمال الروتينية التي يقوم بها عادة الموظفون ذوو الياقات البيضاء من المستوى المتوسط. فقط قارن استخدام البرمجيات المكتبية الأساسية مع وضع الملفات الفعلية في مخازن الملفات. ومع ذلك، لم تنتقل جميع الشركات إلى البرمجيات بسهولة، وأحياناً كان الإفلاس أو الاندماج ضروريين لفرض التحول إلى التقنيات الجديدة. قد تستغرق هذه العمليات سنوات، وقد تتطلب جيلاً جديداً من القيادة.

ربما تبقى بعض أجزاء الاقتصاد غير متأثرة نسبياً بالضغوط التنافسية. على سبيل المثال، غالباً لا تواجه المؤسسات غير الربحية قيود الربح والخسارة المباشرة، وقد تمتلك عديد منها أوقافاً كبيرة أو تتلقى تبرعات منتظمة من مؤيدين لا يراعون الجودة بشكل دقيق. من الصعب أيضاً أن تقلص المنافسة أعباء التكاليف التي تفرضها الحكومة. لذا، كلما زاد حجم القطاعين العام وغير الربحي، استغرق الاقتصاد وقتاً أطول ليصبح أكثر كفاءة.

قلق معاكس

هناك قلق معاكس بشأن تأثير الكفاءة في تغيير الاقتصاد بسرعة كبيرة -مثل الذعر الحالي في بعض الأوساط بسبب سرعة التغيير التي قد يجلبها الذكاء الاصطناعي. لكن ما أراه هو أن عديدا من المؤسسات غير راغبة أو غير قادرة على تبني طرق جديدة مكثفة في استخدام الذكاء الاصطناعي لإدارة أعمالها. ربما لن يغيّر عام آخر أو اثنان من الضغط تلك الحقيقة. ثم إنه مع ازدياد أهمية الذكاء الاصطناعي كميزة تنافسية، ستخرج الشركات التي لا تستخدم هذه التكنولوجيا بفاعلية من السوق. قد تستغرق هذه العملية 10 سنوات أو أكثر، وتحدث على شكل موجات متقطعة، كما حدث مع معظم الابتكارات التكنولوجية الكبرى السابقة.
بشكل عام، وبطريقة يمكن فهمها، الاهتمام بأخبار الشركات يميل إلى التركيز على الابتكار والنجاح. لكن كل اقتصاد لديه أيضاً جانب غير منتج بدرجة كبيرة، يمكن أن يستمر لفترات طويلة من الزمن. فالأمر لا يقتصر على دور التجارة والابتكار في مساعدة الجوانب الأكثر كفاءة من الاقتصاد على النمو بسرعة أكبر، بل إنهما يساعدان أيضاً على تقليص القطاعات الأقل كفاءة -وإن لم يكن دائماً بالسرعة المرجوة.

خاص بـ"بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي