ميزانية النمو النابع من الداخل

من المؤكد أن السؤال عن كيف يتحقق النمو الاقتصادي في الأجل الطويل، هو أهم سؤال شغل الفكر الاقتصادي طوال قرون مضت وما يزال يشغلهم حتى الآن. إن الإجابة عليه تحدد شكل القرار السياسي بشأن حجم الميزانية العامة للدولة، وإذا كان النمو في الأجل الطويل هو هدف لا يجادل عليه أحد، فهو بإذن الله الضامن لتشغيل العمال في المستقبل وبقاء الرفاه للأجيال، فلا بد أن يكون النمو حقيقيا، وليس اسميا، ذلك بتجريد النمو من عوامل التضخم، فقد تنمو الأرقام الاقتصادية في الأصول لكنه نمو حسابي وليس حقيقيا.
فالأصول لم تزد شيئا، بل تناقصت بفعل الاستهلاك، لكن أسعارها ارتفعت فقط. النمو الحقيقي المنشود يواجه تحديات منها التمويل، التي قد تقود للعجز في الموازنة، وزيادة الدين العام، كما أن الإنفاق يقود للتضخم، وهذا ما واجهته كثير من الدول النامية خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ما جعل تلك الدول عند وضع سياسات الإنفاق العام أن تضع جل تركيزها على هدف "الاستقرار الكلي" على حساب هدف حفز "النمو الاقتصادي"، ومع ذلك فإن هذا الاستقرار يعني (في ظل تناقص القوة الشرائية الحتمي) يعني تراجع النمو على المدى الطويل، ومن ثم تآكل هدف الاستقرار.
لتحقيق هدف النمو طويل الأجل فإن النظرية -النيوكلاسيكية – ترى تناقص معدل العائد الحدي على رأس المال (حتميا) بفعل عوامل عدة، لذا فإن القدرة على النمو المستمر في الأجل الطويل لا تتحقق إلا بعوامل "خارجية" لا تتأثر بالسياسات العامة للدولة مثل حدوث تقدم تكنولوجي مع زيادة الاستثمارات بما يسهم في منع تناقص إنتاجية رأس المال فلا تعول على أثر السياسية المالية (الميزانية بنفقاتها) في هذه الفلسفة الاقتصادية على معدل النمو الاقتصادي، لكن الواقع يقول إن هناك آثارا للإنفـاق الحكـومي الموجه نحو تنمية رأس المـال البشـري والبنية التحتية المادية على زيادة الإنتاجية، وعليه فلو تم توجيه الإنفاق الحكومي (الميزانية بنفقاتها) نحو هذه العناصر فإن النمو قد يتحقق بشروط. هذه الشروط تتعلق بالكفاءة، فالأصل في ظاهرة تدخل السياسات الحكومية في النمو هو فشل الأسواق، أي الأسواق الحرة ومؤسسات القطاع الخاص لم تستطع توجيه الموارد وتخصيصها نحو تلك العوامل التي تضمن النمو طويل الأجل، وهذا يطول شرحه، لذا تتدخل الحكومات من أجل تحقيق تكامل مع القطاع الخاص لتحفيز النمو المستدام. ولتحقيق هذا الشرط يجب أن تدرك الحكومات المستوى الذي تتدخل عنده وآليات ذلك بدقة متناهية، فلا تزاحم القطاع الخاص ولا تنصرف عن مهمتها في استدامة النمو من خلال الإنفاق.
في ظل هذه المقدمات الأساسية نقرأ بيان الميزانية التمهيدي لعام 2025، وهو يضع اللبنة الأساسية له بعبارات مثل "تسـتهدف حكومـة المملكـة العربيـة السـعودية مواصلـة دعـم النمـو الاقتصـادي والاسـتمرار فـي رفـع مسـتوى الخدمـات المقدمـة للمواطنيـن والمقيميـن فـي مختلـف القطاعـات عبـر زيـادة الإنفاق مــع الحفــاظ علــى الاســتدامة الماليــة". كما أشارت التقديــرات الأوليــة لعــام 2025 إلــى نمــو الناتــج المحلــي الإجمالــي الحقيقــي بنســبة 4.6% ، مدعوًمــا بنمــو الناتــج المحلــي للأنشــطة غيــر النفطيــة، وهذا أعلى من النمو العالمي المتوقع أن يبلغ 3.3% في 2025، ومن المتوقع مــن المقــدر أن يؤدي الانتعــاش الملحــوظ المتوقــع فــي اقتصــاد السعودية إلــى تطــورات إيجابية فــي الإيــرادات علــى المــدى المتوســط، إذ مــن المقــدر أن يبلــغ إجمالي الإيــرادات لعــام 2025 نحو 1.184 مليــار ريــال مع الاسـتمرار بالإنفـاق علـى الخدمـات الأساسـية للمواطنيـن وتسـريع الإنفـاق لبعـض المشـاريع والإسـتراتيجيات فـي القطاعـات المسـتهدفة. وعليـه، ُتقـدر النفقـات بنحـو 1.285 مليـار ريـال فـي العـام المالـي 2025.
فالنمو الذي يتحقق للاقتصاد السعودي يأتي بفعل الاستخدام الأمثل للأموال الحكومية وفقا لنظرية النمو النابع من الداخل، بدعم سخي لقطاعات رأس المال البشري والابتكار والمشاريع الإستراتيجية التي لا يتم فيها منافسة القطاع الخاص، ودليل ذلك في تقرير البنك المركزي عن الاستقرار المالي من حيث اســتمرار النمــو فــي أصول وقــروض القطــاع المصرفــي الســعودي مدفوعــا فــي المقــام الأول بائتمان قطـاع الشـركات، الـذي تجـاوز فـي نمـوه ائتمان الأسـر و المتوقـع أن يسـتمر التوسـع فـي الائتمـان الممنـوح للقطـاع الخـاص، بمـا فـي ذلـك المنشآت متناهيـة الصغـر والصغيـرة والمتوسـطة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي