إنه عصر التحقق وليس التصديق
والعالم في مخاض عسير حيث قد يمتلك فيه اليوم عدة أشخاص أو شركات قوة خارقة لتطويع الخوارزميات لخدمة مأربهم، بات لزاما على الكل الاستعداد للدخول والتعامل مع مسيرة حياة لم نعتد عليها فيها تضمحل استقلالية قرارنا، وقد نصبح مع مجتمعاتنا ودولنا أدوات تدار عن بعد.
وكثيرة هي الشواهد التي تدلل على أن مالكي ناصية الثورة التكنولوجية الخوارزمية سيزيدون ويكثفون من تحكمهم ليس فقط في الأجهزة الذكية التي نشتريها منهم وندفع أثمانها الكبيرة نقدا، بل التدخل وربما بصلف في شؤون حياتنا.
ولم تشهد البشرية في تاريخها شركة يؤسسها أناس، ربما لم يفلحوا في دراساتهم الجامعية، في المآرب المخصص لسقط المتاع وإذا بها وبقدرة قادر وفي فترة وجيزة تستجمع من السطوة والمال والقوة ما لم تحلم به أعظم الإمبراطوريات في التاريخ.
لنأخذ 5 شركات خوارزمية فحسب، وهي: أبل، ومايكروسوفت، ونيفيديا، وجوجل، وأمازون، وفيسبوك. هذه الشركات الخمس بعضها لم يكن له وجود قبل 3 عقود وتاريخ أقدمها لا يتجاوز 50 سنة.
قوتها الاقتصادية مهولة، حيث تعبر قيمتها السوقية مجتمعة 16 ترليون دولار، وإذا علمنا أن حجم الاقتصاد الصيني، وهو ثاني اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، لا يتجاوز 18 ترليون دولار، عندها قد نتمكن تخيل ما تملكه 5 شركات أمريكية فحسب، لم يكن لها وجود وذكر قبل قبل نحو 5 عقود، من منعة وقوة وسطوة في عالم اليوم.
كيف لشركة واحدة وفي غضون 50 سنة تجمع من الثراء والقيمة وحتى المكانة ما يتجاوز حجم الاقتصاد في دول كبرى مثل بريطانيا العظمى وفرنسا؟ هذا هو شأن شركة أبل اليوم التي لم يكن لها ذكر وأثر قبل 1976، وإلى حد ما واستنادا إلى قيمة السهم المتداول ينطبق على شركة نيفيديا التي ظهرت للوجود في 1993.
هذه قوة لم يشهد العالم لها مثيلا، لم يحدث في التاريخ أن يكون لمؤسسة، وهي ليست دولة أو شبه دولة أو حتى ولاية أو محافظة أو إقليم، يملكها شخص أو عدة أشخاص، من القوة والمناعة، حيث يصبح بمقدورها إدارة الكون.
وعندما أقول إدارة الكون لا أعني تملك جيوش جرارة مدججة بأسلحة فتاكة. ما أقصده يشير إلى أن الذي يملك المقدرة على توجيه بوصلة الخطاب (اللغة) هو الذي يتحكم بمصرينا. لماذا؟ لأن الخطاب يشكلنا ومن خلاله نشكل نظرتنا إلى أنفسنا وإلى العالم حولنا.
لا غرو أن تفعل الشركات الخوارزمية وسعها كي تسيطر على الخطاب المتداول في العالم أو في أقل تقدير في معظمه، خصوصا في الأركان الأكثر حساسية وتأثيرا في مسيرة الكون الذي نعيشه.
والشركات هذه ومعها أخوات أخرى لها تقترب وبخطوات حثيثة صوب الهدف المنشود، وهو تشكيل وجهة نظر عالمية المدى تستجيب لميولها وغاياتها. أسس الفرضية التي تقدمها واضحة: اجعل الناس تفكر مثل ما تريد، وستلقى أنها تهرع إلى أحضانك فكرا وميلا وسلوكا وممارسة.
قد يجافي الحقيقة إن قال امرؤ في صفوفنا إنه لم يتأثر بوسائل التواصل الاجتماعي التي تديرها الشركات الخوارزمية. شئنا أم أبينا، نحن نعمل ضمن النطاق الذي تحدده لنا هذه الوسائل، لا بل أحيانا تسبقنا في ما نريد أن نفكر به.
نستقي أغلب معلوماتنا من المحتوى الذي توفره لنا هذه الشركات، وفي أغلب الأحيان دون أي جهد من قبلنا للتحق إن كانت المعلومة ذات صدقية أم لا.
يبرهن البحث العلمي الرصين أن هناك كثيرا من الزيف والتضليل والخطأ والضار والطالح والخطير في الشائع من المعلومات التي تقدمها لنا الشركات الخوارزمية، والدليل العلمي يوضح لنا أن هناك تعمدا في طرح مثل هذه المعلومات بالذات، وحجب ما قد يدحضها.
هل نركض وراء سراب الخوارزميات أم نقف هوينة للتأمل إن كان طرح المعلومات بكميات هائلة وضمن أطر خطابية محددة مسبقا شيئا بريئا أم إن وراءه ما وراءه؟ هل في الإمكان الإجابة عن سؤال مصيري مثل هذا؟