بنية الرقابة الداخلية .. السيطرة على الوحش
عندما انهارت شركة Equity Funding Corporation of America في السبعينيات من القرن العشرين، أثارت موجة هائلة من الانتقادات للمؤسسات الرقابية والمشرفة على الحوكمة في الولايات المتحدة كافة، وأطلق الكونجرس الأمريكي سلسلة من الدراسات والقرارات الهادفة لإصلاح منظومة الرقابة على الشركات، حتى صدرت لجنة Treadway وانتهت تلك اللجنة بعد نقاشات طويلة إلى حقيقة مفادها، أنه لا توجد إجابة واحدة لمشكلة التقارير المالية الاحتيالية، بل إن الأمر يتطلب التحسين في جميع المجالات التي يتعين على عدد من الأشخاص والكيانات تنفيذها.
والأمر الذي يتطلب إعادة هيكلة حوكمة الشركات وتدخلاً تنظيمياً أكبر. وجاء في التوصيات أهمية التركيز على عنصر داخل الشركة له أهمية قصوى في منع الاحتيال في إعداد التقارير المالية، وهي النغمة التي يحددها كبار التنفيذيين (The Tone at the Top ) التي تؤثر في البيئة المؤسسية، التي يتم فيها إعداد التقارير المالية. ولتحديد النغمة الصحيحة، يتعين على كبار التنفيذيين الحفاظ على الرقابة الداخلية التي توفر ضمانات معقولة لمنع الاحتيال في إعداد التقارير المالية أو الكشف المبكر عنه ـ وهذا مفهوم أوسع من مفهوم الضوابط الداخلية.
لم تكن تدرك لجنة تدريوى أنها تطلق الوحش من قممه وأن الرقابة الداخلية، ليست مجرد مفهوم فقط بل هي عملاقة أخطبوطي هائل يصعب إدراك كنهه فضلا عن السيطرة عليه، لكن لم يعد أحد قادرا على إعادة ذلك المارد إلى قمقمه مرة أخرى فقد خرج للوجود، ولا حل إلا في الصراع معه، لقد كانت أول حلقات الصراع هي تعريف ذلك المدعو (الرقابة الداخلية).
فأعضاء اللجنة رغم استخدامهم لعبارة المراقبة الداخلية (Internal Control) فإنهم خرجوا بتقرير لم يعرفها ولا ماهيتها، ذلك أنهم بأنفسهم لم يتفقوا على معنى دقيق لها، ولا نطاقها لذلك استمر عمل اللجنة لبناء تعريف متفق عليه (An Agreed-Upon, Authoritative definition of Internal Control)، لكن بعد ذلك التقرير الذي صدر 1987 وبعد أعمال لجنة تجاوزت الـ10 سنوات استطاعت لجنة تريدوي الخروج بتعريف أعرج للرقابة الداخلية، وهي تقول فيما أصبح يعرف بنموذج COSO أن الرقابة الداخلية عملية متأثرة (effected by) بالإدارة وبكل أولئك المعنيين بإدارة المنشأة، ويتم تصميمها من أجل الحصول على تأكيد معقول، بأن الأهداف التالية قد تم تحقيقها. وبهذا لم يفهم أحد ماهي الرقابة الداخلية، لقد كان التعريف فضفاضا بشكل مزعج.
لقد كانت الأنظمة تفرض على الشركات بناء نظام للرقابة الداخلية، ومع ذلك فإن أفضل تعريف لها لم يحقق أبسط فهم لمكوناتها، وكيف يتم بناءها، ولذلك لا تستغرب جدا إذا قابلت رجال أعمال كبار وتنفيذيين عباقرة، مع ذلك فإن قدرتهم على تصميم نظام الرقابة الداخلية محدودة جدا، قد يكون لديهم شعور واضح بالقدرة على تطوير الأدوات الرقابية التي يحتاجون لها، لكنهم لا يدركون أنهم بحاجة لها إلا إذا ظهر لهم جزء من بدن الوحش، فهم لا يستطيعون تحديد حجمها الكامل ولا حدودها أو تفاصيلها، ولا يستطيعون شرحها للآخرين، وقد تمضي الشركة في تحقيق أهدافها وهي لا تعلم الحقيقة، ما إذا كان لديها نظام رقابة داخلية كفؤ.
وقد لا تهتم طالما أن الأهداف تتحقق، ولن يعمل احد بحقيقة الوحش حتى تنهار الشركة أو تظهر أزمات لا حل لها. لهذا فإن التعامل مع هذا الكائن الإداري الخفي يتطلب مهارات كبيرة جدا، وأول تلك المهارات هي التوقف عن اعتقاد أن الرقابة الداخلية كائن واحد، بل هي كيانات متعددة، أنها أخطبوط أدرى له عدة رؤؤس، قد تمسك بأحدها وتظن أنك قد أمسكت به، بينما لا يزال قابعا في الظلام.
هناك من يظن أن الضوابط الرقابة (الكاشفة والوقائية والرادعة، والتصحيحة) هي نظام الرقابة لكنه لم يسمك إلا على أطراف الوحش، ومن يظن أنه عندما يضع سياسات الحوكمة ولجان المجلس فقد أمسك بزمامها فإنه في الحقيقة لم يمسك إلا على طرف من أطرافه.
وإذا كانت البنية الكامنة للرقابة الداخلية تضمن وجود نظام (قانون) للمنظمة ولوائح وسياسات ثم قواعد عمل وإجراءات ونماذج فإن هذه في مجمله، لا تمثل سوى العامود الفقري للكائنات التي تعيش في بدن الرقابة وهذه الكائنات برؤوسها المختلفة تشكل بدن الرقابة الداخلية، لهذا فإننا سنظل نتعرض للسعات الرقابة الداخلية كلما ظل هذا الكائن مخفي عن الناظر، ولم يتم ترويضه لصالح المنظمة بشكل كامل.