ترمب .. هل تكون 4 سنوات بتأثير 4 عقود
قد يكون مصطلح الليبرالية واحدا من أكثر المصطلحات تداولا في السياسة الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وليس من اليسر تقديم تعريف متكامل عنها في هذه العجالة، لكن في الأساس فإنها تحصر دور الحكومة في حماية وتعزيز حرية الفرد ومنحه حق التصرف والاختيار.
وتذهب الليبرالية بعيدا في مدى الحرية التي يجب أن يتمتع بها أفراد المجتمع إلى درجة يرى بعض المفكرين أن وجود الحكومة أي حكومة قد يشكل خطرا على الحرية ذاتها.
وفي أدبيات الليبرالية هناك قول لأحد منظريها الكبار وهو توماس باين يصف الحكومة بأنها "شر لا بد منه". وإن كانت هناك ضرورة لوجود المحاكم والشرطة لحماية حرية الأفراد، يخش بعض الليبراليين من أن تتحول إلى سلطة تعسفية تعمل ضد إرادة وحرية الأفراد.
باختصار شديد، فإن النظم الليبرالية تسعى لإقامة نظام يمنح الحكومة السلطة لتعزيز الحرية الفردية والحؤول دون تمكن أي من المؤسسات من سوء استخدام السلطة.
وينسحب المفهوم الليبرالي هذا، الذي يطلق العنان لحرية الفرد، على مناحي الحياة الأخرى منها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
وسياسيا، نرى أن تيار اليسار يميل صوب السياسات الليبرالية، بينما تعارض التيارات اليمينية الليبرالية المنفلتة، لا بل قد تمقتها وتعاكسها. وإن نظرنا إلى طيف الحكم في الولايات المتحدة لرأينا أن الديمقراطيين بصورة عامة ليبراليون في سياساتهم، والمحافظون يعارضونهم.
وهناك خلافات عميقة بين الليبراليين من اليسار والمحافظين من اليمين في الولايات المتحدة إلى درجة أنه صار في الإمكان توقع شكل الحكم الذي سيصدره قاض فيدرالي في قضايا مصيرية استنادا إلى ميله إن كان ليبراليا أم محافظا. القضاة المحافظون على سبيل المثال لا يؤمنون بحرية الفرد في الاختيار في قضايا اجتماعية حساسة كالإجهاض.
وقس على ذلك الكثير من الشؤون التي تلعب دورا كبيرا في حياة المجتمع، حيث تعتمد المواقف والسياسات والممارسات على ميل أصحاب السلطة إن كانوا من التيار الليبرالي أم التيار المحافظ من القاضي الفيدرالي البسيط الى القاضي في المحكمة العليا وحتى الساكن في البيت الأبيض.
لنلقِ نظرة فاحصة بعض الشيء على الانتخابات الأمريكية الأخيرة والتي بموجبها سيعتلي دونالد ترمب كرسي الرئاسة في نحو منتصف يناير المقبل. يصف الكثير من المراقبين ما حدث بالزلزال، وشخصيا أرى أنهم لا يجافون الواقع الذي أفرزته هذه الانتخابات.
ما يميز الانتخابات هذه هي أن دونالد ترمب حقق فوزا كاسحا. خلافا لفترة رئاسته الأولى التي لم يحصل فيها على غالبية الأصوات بل ربح الانتخابات من خلال أصوات المجمع الانتخابي، أتى فوزه هذه المرة من خلال تفويض شعبي حيث حصد غالبية الأصوات وغالبية الأصوات المخصصة للمجامع الانتخابية للولايات.
وهذا يعني أن الناخب الأمريكي ضاق ذرعا بالسياسات الليبرالية والادعاءات التي تقدمها مثل "المجتمع الحر" والأسس والمفاهيم التي استندت إليها الليبرالية منذ بداية القرن الـ20 وحتى يومنا هذا.
الأمريكيون منحوا أصواتهم لدونالد ترمب وهم على معرفة تامة بسياساته ومواقفه والإجرءات التي سيقوم بها والقرارات المصيرية التي سيتخذها ربما في اليوم الأول من تسلمه الرئاسة.
الأمريكيون على معرفة تامة بأن ترمب يمقت الليبرالية الجديدة New Liberalism وهي نسخة ليبرالية فيها مسحة من الاشتراكية بيد أنها تقدس حرية الأسواق وحرية الأفراد وحرية الثقافات والنقل والهجرة. وكانت الليبرالية الجديدة نبراسا لليسار في الغرب وتبناها كل من الرئيس السابق باراك أوباما والرئيس الحالي جو بايدن.
الليبرالية الجديدة تقدس حتى الهوية، هوية من تكون أو من تريد أن تكون ذكرا أم أنثى مثلا. ترمب مصمم على محاربة الليبراية الجديدة في الثقافة والهوية والهجرة والاقتصاد، وهلم جرا، وربما لم يكن سياسي أمريكي أوضح في مواقفه المعادية لكل ما تمثله الليبرالية الجديدة، وقد هدد أكثر من مرة بأنه في طريقه إلى نسفها.
هل ستكبح دونالد ترمب التوازنات والضوابط التي تمنع أي رئيس أمريكي من اتخاذ قرارات أو مواقف أو سياسات "تنسف" ما هو قائم؟
شخصيا لا أظن ذلك، لاننا أمام ترمب مختلف، حيث معه تفويض شعبي وعلى الأرجح تفويض تشريعي لسيطرة حزبه على المجالس التشريعية والقضائية (المحكمة العليا)، وفوق هذا وذاك فإن الدستور يمنح الرئيس الأمريكي حق إصدرا المراسيم الملزمة.
وأكد ترمب أنه سيصدر ما لا يقل عن 40 مرسوما في اليوم الأول من تسلمه الحكم. 4 سنوات مقبلة قد يفوق تأثيرها في العالم ما تتركه 4 عقود أو أكثر.