كيف يمكن لألمانيا التفاهم مع ترمب بشأن التجارة؟
المشكلة لا تكمن في الصادرات الألمانية بل في ضعف الواردات والإنفاق المحلي
ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية في 2022 قلص اختلالات التوازن التجاري لألمانيا مؤقتاً
ألمانيا تعتمد بشكل كبير على التصدير لأميركا وبلغ فائض التجارة بينهما 67 مليار دولار في 2023
لا شك أن عودة دونالد ترمب إلى المشهد السياسي تُعد خبراً سيئاً لألمانيا، التي كانت هدفاً دائماً للرئيس الأمريكي المنتخب المعروف بسياساته الحمائية، خاصة بسبب فائضها التجاري الكبير مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن الانهيار الأخير للائتلاف الحاكم الثلاثي في ألمانيا، بجانب الفوز المحتمل للزعيم المحافظ فريدريش ميرتس في الانتخابات المرتقبة في فبراير المقبل، يُقدمان فرصة لإعادة بناء العلاقات وتنفيذ سياسات اقتصادية قد تسهم في النهاية في سد هذه الفجوة.
المشكلة لا تكمن في الصادرات الألمانية، بل في ضعف الواردات والإنفاق المحلي. لذلك، يتعين على الحكومة الألمانية المقبلة التركيز على تعزيز الطلب المحلي وزيادة الاستثمارات العامة والخاصة. وإذا تحقق ذلك، قد يجد ترمب الفرصة لتقديم هذه الإنجازات كنجاح سياسي يُنسب إليه.
لغة مال مشتركة
يُعد ميرتس، المحامي الثري السابق في مجال الشركات ورئيس مجلس الإشراف على وحدة إدارة الأصول الألمانية التابعة لشركة "بلاك روك" (BlackRock)، شريكاً ملائماً لترمب، فكلاهما يتحدث لغة المال. ورغم أن الخطاب الشعبوي الذي يتبناه مرشح الاتحاد الديمقراطي المسيحي قد لا يلقى قبولاً واسعاً داخل ألمانيا، إلا أنه قد يحظى بترحيب لدى ترمب.
ميرتس، المعروف بدعمه للتحالف الأطلسي، ربما يشعر بالقلق إزاء انتقادات نظيره الأمريكي المتكررة لحلف شمال الأطلسي. لكنه يبدو متفقاً مع إصرار ترمب على ضرورة زيادة ألمانيا لإنفاقها العسكري. (ومن المتوقع أن تفي ألمانيا هذا العام بالتزامها تجاه الحلف بإنفاق 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع لأول مرة منذ عقود، وهو الحد الأدنى المطلوب في ظل الحرب الروسية ضد أوكرانيا وتراجع الضمانات الأمنية الأمريكية).
التجارة قضية شائكة
فيما يتعلق بالتجارة، تزداد الأمور تعقيداً. فقد أدى ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية في 2022 إلى تقليص اختلالات التوازن التجاري لألمانيا مؤقتاً. مع ذلك، تشير تقديرات وكالة "إس آند بي غلوبال ريتينجز" (S&P Global Ratings) إلى أن فائض الحساب الجاري لألمانيا سيظل يتجاوز 6% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط حتى 2027، وإن كان ذلك أقل بكثير من ذروته السابقة.
في ظل تراجع الطلب الصيني، بات أكبر اقتصاد في أوروبا يعتمد بشكل أكبر على التصدير إلى الولايات المتحدة. فقد بلغ فائض تجارة السلع بين ألمانيا وأمريكا رقماً قياسياً قدره 63.3 مليار يورو (67 مليار دولار) العام الماضي.
صادرات ألمانيا إلى الولايات المتحدة عند أعلى مستوى في 20 عاماً
ومع أن برلين لا تتحكم في السياسة التجارية المحلية كونها مسؤولية الاتحاد الأوروبي، فإن تنفيذ ترمب لتهديده بفرض رسوم جمركية تصل إلى 20% على الواردات سيضر ألمانيا بشكل كبير. فقد حذر البنك المركزي الألماني "بوندسبنك" من أن مثل هذه الرسوم قد تخفض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 1%. ومن غير الواضح كيف قد تستفيد الولايات المتحدة من إدخال حليفتها في حالة ركود، حيث إن ذلك قد يؤدي إلى إضعاف قيمة اليورو، ما يعزز الفائض التجاري الألماني.
الاستثمار في أمريكا
ترمب لديه هوس بفكرة أن شركات صناعة السيارات الألمانية تصدر إلى الولايات المتحدة أكثر بكثير مما تصدره الشركات الأمريكية إلى ألمانيا. وهو يطالب هذه الشركات بنقل عمليات التصنيع إلى الأراضي الأميركية.
في الواقع، هذا ما تقوم به الشركات الألمانية بالفعل. فبينما تُصنع سيارات "بورشه" التي يقودها الأمريكيون في أوروبا، تمتلك شركتا "بي إم دبليو" و"مرسيدس-بنز غروب" مصانع ضخمة داخل الولايات المتحدة، التي تُعد أكبر وجهة للاستثمارات الألمانية المباشرة بإجمالي يقارب نصف تريليون يورو.
مع ذلك، تشكل الصادرات الرأسمالية الوجه الآخر لألمانيا التي تحقق فائضاً كبيراً في الحساب الجاري. فعندما تشتري البلاد كمية أقل من السلع من الخارج مقارنة بما تصدره، يتراكم فائض مدخراتها ويتم تصديره للخارج. لكن، مع تدفقات رأس المال الخارجة التي تجاوزت 650 مليار يورو منذ 2010، بدأت هذه الظاهرة تشكل مشكلة متزايدة.
الحاجة إلى إصلاحات اقتصادية
يرى ميرتس أن هذه التدفقات الخارجة تعكس تراجع جاذبية البيئة الاستثمارية في ألمانيا، وأعتقد أنه محق في ذلك.
قبل نحو عقدين، عندما واجهت ألمانيا أزمة اقتصادية حادة، اعتمد ائتلاف يسار الوسط بقيادة غيرهارد شرودر إصلاحات هارتز التي صُممت لتعزيز فرص العمل وتحسين القدرة التنافسية الدولية للبلد. لكن خفض تكاليف الأجور آنذاك ساهم في زيادة فائض الحساب الجاري.
هذه المرة، ينبغي على ألمانيا التركيز على تحفيز الاستهلاك والاستثمار المحلي. ورغم أن الأجور في ألمانيا شهدت زيادات تفوق معدلات التضخم، فإن معدل الادخار لا يزال مرتفعاً عند نحو 11% من الدخل المتاح.
هذا الاتجاه يعكس بلا شك قلة الثقة في آفاق الاقتصاد الألماني، إلى جانب اقتراب جيل طفرة المواليد من سن التقاعد، إضافة إلى الفجوة الكبيرة في توزيع الثروة. ففي حين يدخر الأثرياء مبالغ ضخمة، يكافح ذوو الدخل المنخفض لتلبية احتياجاتهم الأساسية، على الرغم من زيادات الحد الأدنى للأجور.
لكن المشكلة تكمن في أن تردد الشركات والأسر في الإنفاق، إلى جانب إصرار الحكومة على محاولة تحقيق توازن الميزانية، يؤدي بشكل طبيعي إلى ركود اقتصادي من حيث القيمة الحقيقية، وهو ما تعانيه ألمانيا منذ 2019.
إعادة توجيه المدخرات والاستثمارات
في مقال كتبته أخيرا، اقترحت على ألمانيا أن تزيد من مرونتها المالية عبر إصلاح سياسة "كبح الديون" لتمويل الاستثمارات العامة التي تشتد الحاجة إليها. ومع الفرصة الكبيرة لتولي فريدريش ميرتس رئاسة الحكومة، يبدو أنه أصبح أكثر استعداداً لدراسة هذه الفكرة.
يتعين على ألمانيا أيضاً أن تسعى لاستيعاب جزء أكبر من مدخرات الشركات والأسر داخل الاقتصاد المحلي. يدعم ميرتس فكرة توجيه بعض تريليونات اليورو التي يودعها الألمان في حسابات مصرفية ذات عوائد منخفضة نحو تمويل مشاريع البنية التحتية، وهي خطوة تحمل إمكانات واعدة.
كما أن تقديم علاوة ممولة من الدولة للاستثمار التجاري، كما يقترح وزير الاقتصاد روبرت هابيك، تستحق الدراسة. وفي ظل النقص المزمن في المنازل، يجب على ألمانيا أيضاً تخفيف اللوائح التنظيمية المعقدة التي تعيق الاستثمار في قطاع الإسكان.
إصلاح نظام التقاعد
هناك سبب آخر يدفع الألمان إلى الادخار المفرط هو إدراكهم بعدم استدامة نظام التقاعد القائم على مبدأ الدفع حسب الاستهلاك، حيث يتم تمويل دخول المتقاعدين الحاليين من دخل العاملين الحاليين، خاصة مع انخفاض عدد السكان في سن العمل نتيجة التغيرات الديموغرافية. لذلك، يجب على الحكومة المقبلة إصلاح نظام التقاعد لتعزيز الادخار المعفى من الضرائب في الأسهم، التي يمكن أن تحقق عوائد جيدة على المدى الطويل.
تحفيز ساعات عمل أطول وتحسين خدمات رعاية الأطفال للعاملين بدوام جزئي (وهم غالباً من النساء) يمكن أن يزيد من الدخل المتاح ويساعد على الحد من نقص العمالة. وينطبق ذلك أيضاً على تقديم حوافز ضريبية للراغبين في تأجيل الحصول على المعاشات التقاعدية ورفع سن التقاعد (المقرر أن يصل إلى 67 عاماً بحلول 2031) بما يتماشى مع الزيادة في متوسط العمر المتوقع.
إقناع ترمب بأن هذه التدابير ستؤدي في النهاية إلى تعزيز الطلب على السلع الأمريكية قد يكون تحدياً صعباً، لكن ميرتس لديه فرصة أفضل لتحقيق ذلك مقارنة بغيره.
خلاصة
يتناول المقال تأثير عودة دونالد ترمب إلى الساحة السياسية في ألمانيا، مركزاً على الصدام المتوقع بسبب فائضها التجاري الكبير مع الولايات المتحدة. يعرض المقال فرص ألمانيا في تخفيف التوتر عبر سياسات اقتصادية تركز على زيادة الطلب المحلي والاستثمار، بدلاً من الاعتماد الكبير على التصدير.
يبرز فريدريش ميرتس كقائد محتمل قادر على التفاهم مع ترمب، بفضل خلفيته في عالم المال ودعمه للتحالف الأطلسي. ويشير المقال إلى أن ألمانيا تواجه تحديات في استدامة فائضها التجاري بسبب تراجع الطلب الصيني وزيادة الاعتماد على السوق الأمريكية. كما يناقش التوترات المحتملة حول فرض رسوم جمركية أمريكية وتأثيرها السلبي في الاقتصاد الألماني.
الحل يكمن، وفق الكاتب، في إصلاحات اقتصادية تعزز الإنفاق المحلي، مثل الاستثمار في البنية التحتية، إصلاح نظام التقاعد، وتخفيف اللوائح التي تعيق الاستثمار، خاصة في قطاع الإسكان. يختتم المقال بالتأكيد على أن تحسين العلاقات مع ترمب يتطلب سياسات تجعل ألمانيا سوقاً أكثر استيعاباً للسلع الأمريكية، وهو تحدٍ قد يتمكن ميرتس من مواجهته بفاعلية.
خاص بـ"بلومبرغ"