ناقوس خطر .. 325 مليار دولار "كاش" بيد وران بافيت

عرّاف أوماها لا يدعي أنه خبير في توقع حركة الأسهم في السوق لكنه يعرف متى تكون أسعارها باهظة


أعلنت شركة "بيركشاير هاثاواي" حيازاتها من الأسهم الأسبوع الماضي ضمن تحديث ربع سنوي ينتظره الجميع عن أحدث صفقات وارن بافيت. وظهر من خلال هذا التحديث بعض الصفقات البارزة، ومن بينها إضافة شركة (Domino’s Pizza) إلى محفظة "بيركشاير هاثاواي" مع مواصلة تقليص حصتها في شركة  "أبل".

غير أن الرصيد النقدي الذي تحتفظ به شركة "بيركشاير هاثاواي" طغى على جميع هذه التحركات، وقد بلغ 325 مليار دولار، أو ما يقرب من ضعف رصيدها النقدي في نهاية السنة، وأكبر مبلغ نقدي راكمه بافيت على الإطلاق.

يأتي ذلك أيضاً في وقت وصل فيه مقياس التقييم المفضل لدى بافيت -وهو عبارة عن معدل لقيمة سوق الأسهم بالنسبة إلى حجم الاقتصاد الأمريكي- إلى مستوى قياسي مرتفع.

عندما ننظر إلى هذه التطورات مجتمعة، ربما يبدو الأمر وكأن بافيت يحاول أن يتوقع موعد الانخفاض التالي في السوق، لكن ما يفعله أكثر دقة وعمقاً من ذلك، وهو أمر يفيد المستثمرين دراسته.


بين توقيت السوق والتخصيص الإستراتيجي


بافيت هو أول من يعترف بأنه لا يملك القدرة على التنبؤ باتجاه السوق في المدى القريب، بما في ذلك توقيت انهياراته بين حين وآخر. لكن ما يستطيع أن يفعله هو تقدير الأداء المحتمل للأسهم على المدى الطويل واستخدام هذا التقدير لتحديد قيمة ما يخصصه للاستثمار في الأسهم مقارنة بالأصول الأخرى.

في هذا تمييز مهم. فهناك فرق بين المراهنة على تحولات السوق، وهو أمر من الصعب للغاية إن لم يكن مستحيلاً أن تفعله وتحقق أرباحاً، وبين تحديد كيفية تخصيص استثمارات لمختلف الأصول بناءً على عوائدها المتوقعة على المدى الطويل، التي يمكن تقديرها بدرجة عالية من الدقة وإن لم يكن بدقة كاملة. وبعبارة أخرى، هناك فرق بين المراهنة على مسار السوق غير المعروف والمراهنة على وجهته المحتملة.

يبدو أن ذلك المبدأ يوجه قرارات بافيت منذ فترة طويلة. تفاوت تخصيص "بيركشاير هاثاواي" أرصدة للاحتفاظ بها نقداً كنسبة مئوية من أصول الشركة بشكل كبير على مر السنين، من 1% في 1994 إلى ما يقرب من 28% في الوقت الحالي.

يظهر تاريخ الشركة أن بافيت يرفع باستمرار أرصدة "بيركشاير" المخصصة للنقد مع ارتفاع تقييمات الأسهم خلال فترات الازدهار -وبالتالي انخفاض العوائد المتوقعة- ويقلل الأرصدة النقدية عندما تظهر فرص الاستثمار. كما يؤكد أن بافيت ليس لديه موهبة تُذكر في إستراتيجية توقيت السوق، كما يعترف هو بذلك.


دروس فقاعة الإنترنت والأزمة المالية


على سبيل المثال، خلال فقاعة الإنترنت في أواخر تسعينيات القرن الماضي، رفع بافيت رصيد النقدية إلى 13% من إجمالي الأصول في 1998 وذلك من 1% فقط قبل 4 سنوات مع ارتفاع تقييمات الأسهم. لكنه خفض رصيد النقدية إلى 3% في 1999، قبل نحو عام من انفجار الفقاعة، على الأرجح لأنه وجد هدفاً جذاباً. وبأثر رجعي، ربما كان من الأفضل له الاحتفاظ بهذا النقد لعام آخر عندما أصبحت الصفقات وفيرة، لكن حتى بافيت العظيم لا يمكنه توقع التحولات القادمة. لكنه فعل الشيء التالي من حيث الأفضلية، وهو توظيف كل أرصدة "بيركشاير هاثاواي" النقدية تقريباً خلال فترة انخفاض الأسهم.

ثم تحول مرة أخرى في الفترة التي سبقت الأزمة المالية في 2008. بدأ بافيت في زيادة رصيد النقدية بشكل كبير عندما تعافت السوق في 2002، حتى وصل في النهاية إلى 25% من إجمالي الأصول في 2005. وبدأت أرصدة "بيركشاير" النقدية في الانخفاض في 2006، بشكل رئيسي لأن قيمة أصولها واصلت الارتفاع. لكن عندما دفعت رائحة الأزمة المقبلة أسعار الأسهم نحو الانخفاض بدءاً من أواخر 2007، استخدم بافيت نقوده وخفضها في النهاية إلى 7% من الأصول في 2010، جزئياً بسبب استثماره الذكي الشهير في مجموعة "جولدمان ساكس" في ذروة الأزمة.


إستراتيجية بافيت البسيطة


كيف يفعل بافيت ذلك؟ إنه يراهن على مبدأ بسيط، وهو أن هناك علاقة عكسية بين التقييمات والعوائد المستقبلية. أي أنه عندما تكون أسعار الأصول مرتفعة، تميل العوائد المستقبلية نحو الانخفاض، والعكس صحيح.

لا يهم حتى أي مقياس تستخدمه من مقاييس التقييم، لأنها عموماً تصل إلى النتيجة نفسها. ارتفع مقياس بافيت المفضل لسوق الأسهم -الذي يعتمد على قيمة السوق كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي- في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ومرة أخرى في منتصف العقد الأول من القرن الـ21، مشيراً إلى انخفاض عوائد الأسهم مستقبلاً. في كلتا المرتين، بلغ العائد على النقود نحو 5%، ولم تكن عوائد الأسهم المتوقعة، إن وُجدت، أعلى من ذلك بكثير. وبالنظر إلى هذه الخيارات، كان من المنطقي الاحتفاظ ببعض الأرصدة النقدية.

واليوم، بلغت نسبة سوق الأسهم إلى الناتج المحلي الإجمالي مستوى أعلى حتى مما كانت عليه في أواخر تسعينيات القرن الماضي ومنتصف العقد الأول من الـ21، ما يشير إلى انخفاض العوائد المستقبلية. وفي الوقت نفسه، تدر النقود عائداً يعادل تقريباً نفس ما كانت تدره آنذاك. فلا عجب أن يرتفع ما تحتفظ به "بيركشاير" كرصيد نقدي إلى أعلى مستوى منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي على الأقل.


إجماع شركات إدارة الأموال


على أي حال، بافيت ليس وحده في ذلك. وفي الواقع، لا أستطيع أن أتذكر وقتاً شهد درجة من الاتفاق كبيرة بهذا القدر على أن الأسهم الأمريكية توشك أن تخيب آمال المستثمرين، على الأقل بالمعايير التاريخية.

أكبر شركات إدارة الأموال، بما في ذلك "بلاك روك" و"فانجارد جروب" و"جولدمان ساكس" و"جيه بي مورجان أسيت مانجمنت"، تتوقع جميعها أن تعجز سوق الأسهم الأمريكية بنسبة كبيرة عن تحقيق عائدها التاريخي الذي بلغ 9% سنوياً على مدى 150 سنة ماضية.

من الصعب أن نجادل وسط هذا الإجماع. يحقق المستثمرون في الأسهم أرباحاً عبر 3 طرق. الأولى هي عائد المساهمين، وهو مزيج من توزيعات الأرباح وإعادة شراء الأسهم. والثانية هي نمو الأرباح الناتج عن ارتفاع المبيعات أو زيادة هوامش الربح، والثالثة هي التغير في قيمة الأسهم.


أوضاع السوق والعوائد المتوقعة


وهذه على ما يبدو هي أوضاع السوق، إذ يصل العائد من توزيعات الأرباح على مؤشر "إس آند بي 500" إلى 1.3%، وسجل العائد من إعادة شراء الأسهم في آخر 12 شهراً 1.8%. أما بالنسبة لأرباح الشركات، فيتوقع المحللون نمو المبيعات بنحو 4% سنوياً خلال السنوات القادمة، وهو ما يتماشى مع النمو التاريخي للمبيعات. كما يتوقعون استمرار هوامش الربح القياسية المرتفعة على حالها بدلاً من أن تنكمش، وهو افتراض بالغ التفاؤل، لكن لنفترض صحته. وفيما يتعلق بأسعار الأسهم، فيجري تداول مؤشر "إس آند بي 500" عند 25 ضعف الأرباح المستقبلية، مقارنة بمتوسط بلغ 18 ضعفاً منذ 1990. وحتى يعود إلى المتوسط، يجب أن تتراجع قيمته بنحو 3% سنوياً على مدى 10 سنوات، إذا لم يحدث انكماش أكثر حدة مثل الذي حدث في 2022 في وقت أقرب من ذلك.

كل ذلك يُضاف إلى عائد متوقع بنحو 4% سنوياً لمؤشر "إس آند بي 500" على مدى العقد القادم، وربما ليس من قبيل الصدفة أن ذلك يتماشى تقريباً مع متوسط العائد المتوقع الذي حسبه كبار خبراء المال. كما أنه ليس مثيراً للغاية عند مقارنته بعائد 4.4% على أذون الخزانة الخالية من الأخطار لأجل 3 أشهر.

لا يستطيع أحد أن يتوقع مسار السوق بدقة معقولة، ولهذا السبب لن ترى بافيت يقوم بتخصيص أمواله كاملة للاستثمار في أصول معينة أو الخروج منها مع تحركات السوق. لكن وجهة الأصل أسهل في توقعها، خاصة عندما تكون أسعار الأسهم مرتفعة بشكل صارخ. وعندما تعد هذه الوجهة بعائد قليل نسبياً مقارنة بالنقود، شاهد بافيت وهو يعزز رصيد النقدية ويحتفظ بها ليوم الشدة.


خلاصة

يتناول المقال إستراتيجية وارن بافيت الاستثمارية من خلال حركات شركة "بيركشاير هاثاواي" الأخيرة، خاصة زيادة أرصدتها النقدية إلى مستوى قياسي بلغ 325 مليار دولار، وتقليص حصتها في "أبل"، مع إضافة "دومينوز بيتزا". يظهر هذا التوجه إدراك بافيت للعلاقة بين تقييمات الأسهم والعوائد المستقبلية، حيث يميل إلى الاحتفاظ بالنقد في أوقات ارتفاع تقييمات السوق وتوجيهها نحو الاستثمارات عند انخفاض الأسعار. المقال يعرض أمثلة تاريخية، مثل استغلال بافيت فرص الانخفاضات الكبرى خلال أزمة الإنترنت وأزمة 2008، مظهراً فلسفته بعدم توقع توقيت السوق بدقة، بل التركيز على التوجهات المستقبلية طويلة الأجل. يستنتج المقال أن بافيت يتبع مبدأ بسيطاً: "الاحتفاظ بالنقد عندما تكون التقييمات مرتفعة"، وهو نهج يتفق مع توقعات منخفضة لعوائد سوق الأسهم الأمريكية مستقبلاً. يدعو المقال المستثمرين إلى دراسة هذا الأسلوب التحليلي لتخصيص الأصول بدلاً من محاولة توقيت السوق، مؤكداً أن النقد يمكن أن يكون إستراتيجية انتظار حكيمة في أوقات الضبابية.


خاص بـ "بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي