الحوكمة في عهد الملك عبدالعزيز

كلما قرأت عن تاريخ الملك عبدالعزيز أجدني في دهشة مما قرأت، لقد كان -رحمه الله- فذا وعبقريا بلا شك، فالجزيرة العربية قبل الملك عبدالعزيز كانت مشتتة، أكلتها ضواري العصبية والفقر وقلة العلم التقني، بل ندرته والمرض مع العزلة حضارية هائلة، لم يكن هناك من يريد التصدي لهذه المعضلات الجسيمة لضخامة تكلفة التغيير، لذلك لم تكن الجزيرة مطمعا للغزاة، ففيها رجال لم يكونوا يرضون الدنية في دينهم ولا أرضهم، لهثا خلف حضارة مادية مجردة ولا معنى لحروب طويلة بأرض ليس لها ميزة اقتصادية.

لكن ابن الجزيرة العربية الملك عبدالعزيز كان يراها بعين الابن البار، ويرى في أبنائها مالم يراه الأباعد، فأنطلق في رحلة التوحيد العظيمة، ليجمع الله به الشتات، ويعز به الإنسان.

ولأنه لم سبق أن نشأت في الأرض العربية دولة على الحقيقة منذ قرون، فقد كان لزاما أن يبتكر الملك عبدالعزيز ورجاله منظمات تناسب الحال الجديدة، لتنقل المجتمع نحو المدنية الحديثة في ذلك الزمان، رغم ندرة الموارد والمختصين، لكنه بدأ بتوفيق الله له مستنيرا بفطرته وحنكتها السياسية والإدارية، وللحق فإنهما نادرا ما تجتمعان في شخص.

الحوكمة في عهد الملك عبدالعزيز بحث كبير، لن يحيط به مقال أو سلسلة مقالات، ذلك أن الفلسفة التي انتهجها المؤسس -رحمه الله- ذات أبعاد متعددة، وسأشرح هنا بعدين فقط هما: الشفافية ومراجعة مدى الالتزام، ولنبدأ من تقرير نشرته وكالة الأنباء السعودية (واس) على موقعها بمناسبة اليوم الوطني بعنوان "50 عاماً في حياة الملك عبدالعزيز ..تشريعات إدارية ترسّخ القيم الاجتماعية تحت مظلة الدولة العصرية"، واقتبس من التقرير (ثم قام بإصلاحات إدارية وتنظيمية في مجالات القضاء والمحاكم وشؤون الحرمين والأوقاف والمساجد والمؤسسات الدينية، والأمور الداخلية مثل: الأمن العام والبرق والبريد والصحة العامة والبلديات والأشغال والتجارة والزراعة والصناعة والمعادن والمؤسسات الخاصة.

كانت من أبرز التنظيمات الإدارية التي أمر بها الملك عبدالعزيز، إضافة إلى تشكيل لجنة التفتيش والإصلاح في غرة محرم 1346هـ، حيث كانت مهمتها مراجعة عامة للجهاز الإداري للدولة وتحسس مواطن الخلل فيه والعمل على إصلاحه)، نفهم من هذا النص أن الملك عبدالعزيز كان لديه هاجس بشأن مدى الالتزام بالتنظيمات التي أصدرها من قبل الأجهزة الإدارية الجديدة، لذلك أنشأ لجنة التفتيش والإصلاح مهمتها مراجعة عامة للجهاز الإداري للدولة وتحسس مواطن الخلل فيه، لاحظ أنها لم تكن مراجع مالية كمثل الديوان العام للمحاسبة، بل هي تقوم بعمل ما نطلق عليه اليوم مراجعة مدى الالتزام.

وقد جاء نص الأمر الملكي حينها بأن اختصاص هذه اللجنة هو أولا: النظر في جميع الشكايات التي ستقدم ضد أي إدارة من إدارات الحكومة أو أي موظف في هذه الدوائر، ثانيا: درس الحالة الإدارية العامة وإقرار ما ثبت بالتجربة صلاحه وإصلاح ما يدعو الحال لإصلاحه. وقد كان مقر هذه اللجنة في الديوان الملكي بمكة المكرمة.

وبعيدا عن ترسيخ الحق العام في قبول ودراسة أي شكوى ضد الدوائر الحكومية، فإن عبارة "درس الحالة الإدارية العامة وإقرار ما ثبت بالتجربة صلاحه وإصلاح ما يدعو الحال لإصلاحه"، تعد جملة ملهمة تتطلب نقاشا طويلا، فالمراجعة الإدارية لمدى الالتزام في عهد الملك عبدالعزيز لم تكن فقط لقياس مدى تطبيق النظام وكأنه ملزم مطلقا، بل المطلوب منها فحص الالتزام وفقا لفهم الواقع ما يدعو الحال لإصلاحه (في أي جانب).

ولأن هذه التجربة الإدارية في التفتيش والإصلاح جديدة كليا على المجتمع السعودي حينها فقد جاءت افتتاحية جريدة أم القرى في العدد 134 عام 1346 هـ، لتشير "بأنه من الخطأ البين الاعتقاد أن الأنظمة هي التي تغير من روح الأمة، لأن الأمة هي نسيج روحها وبيئتها وزمانها وأوضاعها، فهذه العوامل وحدها هي الكفيلة بنهوض الأمم وترقيها أما الأنظمة فليس من شأنها تكييف روح الأمة بل من السهل تغييرها"، هذا النص يدل على أن روح السعودية التي أطلقها الملك عبدالعزيز كانت النهضة بغض النظر عن شكل الأنظمة والإدارات التي تتغير وفقا للظروف لكن هذا التغيير إن حدث فهو نتيجة فعل إداري رصين فهل هناك عبارات أجمل من هذه لفهم إدارة التغيير؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي