مسيرة تشكيل حكومة لبنان مليئة بالألغام

مسيرة تشكيل حكومة لبنان مليئة بالألغام
نواف سلام رئيس محكمة العدل الدولية والمكلف بتشكيل الحكومة في لبنان. 16 مايو 2024 - رويترز

بعد سنوات من الجمود السياسي، عاد محرك المؤسسات الحكومية في لبنان إلى العمل مجدداً بعد انتخاب جوزاف عون رئيساً، وتكليف نواف سلام لتشكيل حكومة.  ورغم أهمية هذه الخطوات لكسر حالة الفراغ، إلا أن التحديات السياسية والاقتصادية الضخمة تجعل من الصعب التنبؤ بمستقبل البلاد.

وبحسب "اقتصاد الشرق مع بلومبرغ" حصل سلام على 84 صوتاً في الاستشارات النيابية الملزمة، متفوقاً بفارق كبير على رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي حصد 9 أصوات فقط، في حين امتنع 34 نائباً عن تسمية مرشح.

رغم أن سلام حصد أصوات الأكثرية، ولكن حيثية النواب الذين رفضوا تسمية أحد، أو حتى أولئك الذين سموا ميقاتي، تشكل أول تحدٍ أمام رئيس الحكومة المقبل.

يفترض أن يبدأ رئيس الحكومة المكلف عملية التشكيل، على أن يعرضها على مجلس النواب المؤلف من 128 نائباً للتصويت. وفي حال حصول الحكومة على الثقة فتستطيع عندها بدء عملها وتنفيذ بيانها الوزاري. وعادة ما تستغرق هذه العملية أسابيع وحتى أشهر، نتيجة الانقسامات السياسية بين الكتل.

ولكن الانقسام ظهر مبكراً مع امتناع نواب "حزب الله" بكتلتهم البالغة 15 نائباً و"التنمية وكتلة التحرير" التي لديها العدد نفسه من النواب أيضاً، عن تسمية أي أحد لرئاسة الحكومة، مما يشير إلى أن أن مسيرة سلام نحو تشكيل الحكومة قد تكون مليئة بألغام سياسية.

انزعاج "حزب الله"
كتلة "حزب الله" كانت أكثر المنزعجين من تكليف سلام الذي لم يحظ بأي صوت شيعي، في بلد منقسم طائفياً.

أعربت الكتلة عن موقفها بوضوح، إذ قال رئيسها محمد رعد بعد لقاء مع جوزاف عون، إن الاجتماع مع الرئيس كان "من أجل الإعراب عن الأسف لمن يريد أن يخدش إطلالة العهد التوافقية"، مضيفاً: "مرة جديدة يكمن البعض من أجل التفكيك والشرذمة والإلغاء والإقصاء تعنتاً وكيدية وتربصاً... نقول بكل بساطة إنه من حقهم أن يعيشوا تجربتهم، ومن حقنا أن نطالب بحكومة ميثاقية، لأن أي سلطة تناقض العيش المشترك لا شرعية لها على الإطلاق".

كلام رعد ليس الأول من نوعه داخل أوساط الحزب والمقربين منه، حتى أن رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع علّق على موضوع الميثاقية، مشيراً في تصريحات تلفزيونية، إلى أن الحديث عن محاولة الإقصاء "يكون في حال قرر رئيس الحكومة المكلف، تشكيل حكومة بدون تمثيل للشيعة"، مضيفاً أن "القوات" ستقف ضد سلام في حال قام بذلك. 

ولكنه أوضح أن "الميثاق الوطني في الدستور اللبناني مبني على الشراكة بين المسيحيين والمسلمين، أي وفق التوازن بين الطوائف وليس بين المذاهب".

استحقاقات اقتصادية
رغم احتمال حل الخلافات عبر الحوار وتقاسم الأدوار الوزارية أو اللجوء إلى حكومة تكنوقراط مستقلة عن الأحزاب، فإن بدء "عهد جديد" وسط توترات مع "حزب الله" و"حركة أمل" يُظهر تحديات كبيرة؛ خاصة مع وجود استحقاقات اقتصادية وسياسية كبرى تتطلب توافقاً بين غالبية الكتل السياسية لتجنب تعميق الأزمات.

أبرز الاستحقاقات الاقتصادية تتمثل في الحفاظ على بعض المنجزات التي حدثت خلال الفترة الماضية، مثل سعر صرف الليرة اللبنانية المستقر، والتوازن المالي، ما يعني أن الحكومة الجديدة بحاجة لإيجاد توافق حكومي لتعيين حاكم جديد للمركزي بعدما انتهت ولاية رياض سلامة، وتسلم نائبه وسيم المنصوري المهام مؤقتاً. 

بالإضافة لما سبق، فإن إعادة إعمار ما دمرته الحرب الأخيرة مع إسرائيل من التحديات الرئيسية، وهو أمر أشار إليه رعد في تصريحه أيضاً، معتبراً أن الحزب سيراقب ما ستقوم به الحكومة الجديدة في هذا المجال.

يقدر "البنك الدولي" أن كلفة إعادة إعمار لبنان تقدر بنحو 5.1 مليار دولار، يضاف إليها خسائر وأضرار أخرى تقدر بنحو 3.4 مليار دولار.

وفي حين يذهب بعض الخبراء إلى تقدير الخسائر المباشرة وغير المباشرة بنحو 10 مليارات دولار، فإن تقديرات البنك تشير إلى أنها تمثل نحو 50% من الناتج المحلي في لبنان بعد أزمة 2019 التي أفقدت الليرة اللبنانية نحو 90% من قيمتها، ودفعت نحو نصف السكان إلى حافة الفقر.

تحسين العلاقة مع المجتمع الدولي
هذه الكلفة لا يستطيع لبنان وحده تحملها، ما يعني أنه سيلجأ إلى المجتمع الدولي والدول المانحة، وبالتالي فإن سلام بحاجة إلى تحسين العلاقات مع المجتمع الدولي والعربي.

ظهرت بعض المؤشرات الإيجابية على اقتراب فك عزلة لبنان، إذ أعرب أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط بعد لقاء مع جوزاف عون، عن ثقته في أن "الكثير من الأمور ستتحرك إيجابياً للأمام خلال الفترة القادمة".

كما أفادت وكالة الأنباء الإماراتية، بأن وفداً رفيع المستوى وصل إلى لبنان لإجراء ترتيبات إعادة فتح السفارة بعد 3 سنوات على إغلاقها. هذه الترتيبات تأتي بعد يوم من اتصال بين الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد والرئيس اللبناني المنتخب، حيث اتفقا على اتخاذ الخطوات اللازمة لإعادة فتح السفارة.

وأكد وزير الخارجية الكويتي عبدالله اليحيا في تصريح لـ"كونا"، وجود ترتيبات لزيارة لبنان، لافتاً إلى أن "دعم لبنان وسوريا قيد الدراسة".

الرئيس اللبناني المنتخب يحظى بدوره بتأييد دولي، إذ بادر العديد من رؤساء العالم إلى تهنئته فور فوزه بالمنصب، على غرار العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حتى أن الرئيس الأميركي جو بايدن قال في بيان بعد انتخاب عون إنه "يحظى بثقتي. وأعتقد اعتقاداً راسخاً أنه الزعيم المناسب لهذه المرة"، متعهداً بدعم الشعب اللبناني لأنه "اختار طريقاً يتماشى مع السلام والأمن والسيادة وإعادة الإعمار، بالشراكة مع المجتمع الدولي".

إعادة التفاوض مع صندوق النقد
إن فك العزلة العربية والدولية قد يشكل خطوة أولى لإعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة دعم جديدة، ما يسمح للبنان بالعودة إلى الأسواق الدولية وتأمين التمويل اللازم لبدء عملية التعافي الاقتصادي. هذا المسار بات أكثر إلحاحاً بعد فشل البلاد في تنفيذ الإصلاحات التي طالب بها الصندوق ضمن الاتفاق الأولي الموقع في عام 2022.

هذا يعني أن أبرز تحديات الحكومة المقبلة في هذا المجال، تتمثل في إقرار القوانين، مثل قانون الكابيتال كونترول، التي تم الاتفاق عليها مع الصندوق، وإيجاد حل عادل لأزمة المودعين، ويضمن في الوقت ذاته، استمرارية القطاع المصرفي ويعيد الثقة إليه، وهو أمر ليس يسيراً، إذ عجزت عنه الحكومات المتعاقبة منذ 2019.

يتطلب هذا الوضع من رئيس الوزراء المكلف، سلام، العمل على "تدوير الزوايا" بين الكتل النيابية بهدف تمرير القوانين الضرورية، خاصة في ظل التباين الكبير في وجهات النظر بين الكتل حول الأزمات المطروحة وطرق معالجتها. وقد برز هذا الخلاف بوضوح خلال المحاولات السابقة لإقرار التشريعات المطلوبة.

نظرة سلام الاقتصادية
تشكل آراء سلام الاقتصادية والسياسية تحديًا آخر أمامه، نظرًا لتعمقه في العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، وهو ما يتضح من مؤلفاته العديدة التي تناولت الأزمات اللبنانية وأبعادها السياسية والاجتماعية. من بين أبرز كتبه، "الإصلاح الممكن والإصلاح المنشود" (1989)، و"أبعد من الطائف" (1998)، و"اتفاق الطائف استعادة نقدية" (2003)، و"خيارات للبنان" (2004)، حيث عكست هذه المؤلفات رؤيته الإصلاحية ونقده الحاد للواقع السياسي والاقتصادي.

في محاضرة ألقاها في مارس 2023 بعنوان "الطائف في النص والممارسة أين الخلل؟"، أكد سلام إيمانه بضرورة بناء "دولة مؤسسات وقانون توفر شروط المساءلة والمحاسبة". خلال هذه المحاضرة، انتقد مجلس النواب لفشله في انتخاب رئيس للجمهورية منذ أكثر من أربعة أشهر، وتعثر تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات النيابية، وأشار إلى القضاء الذي "بات  يقف مشلولاً أمام جريمة بحجم انفجار مرفأ بيروت"، ما زاد من حدة الأزمات التي يعانيها.

كما تناول سلام وضع الإدارات العامة، موضحًا أنها تعاني من سيطرة الطائفية والمحسوبية، وأصبحت شبه مشلولة في تقديم الخدمات الحيوية مثل الكهرباء والمياه والاتصالات، إضافة إلى تدهور التعليم الحكومي وانتشار الفساد على نطاق واسع في الدولة.

رؤية سلام للجمهورية الثالثة
يرى سلام أن حل مشاكل لبنان يتطلب "وضع برنامج متكامل لبناء اقتصاد حديث ومنتج؛ اقتصاد يرتكز على تحفيز نموٍّ شامل ومستدام وعلى تأمين فرص العمل من خلال تطوير الزراعات التنافسية والصناعات المستندة الى التكنولوجيات الجديدة وتكبير الاقتصاد الأخضر. وهذا يتطلب ايضاً تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي ووضع نظام ضريبي جديد أكثر فعالية وإنصافاً"، وذلك وفق ما ورد في مقدمة كتابه "لبنان بين الأمس والغد" الصادر عام 2021.

سلام اعتبر في كتابه، أن "الجمهورية الثالثة" في لبنان، يفترض أن "تقوم على مبدأ المواطنة الجامعة وسيادة القانون، وعلى دولة مدنية ترتكز على قيم العدالة والمساواة والحرية واستقلالية القضاء، بدلاً من الطائفية والمحاصصة".

وعبّر أيضاً عن رؤيته بضرورة الانتقال إلى مجلسين واحد للنواب وآخر للشيوخ كما نص اتفاق الطائف، وطالب بتطبيق "اللامركزية الإدارية الموسعة" شرط ألا تتعدى الجانب الإداري، وإصلاح قانون الانتخاب.

هذه الأفكار تفترض أنه بمجرد تسلمه وتشكيل حكومة جديدة، سيلجأ إلى قلب هذه المعادلات، وسيحاول إصلاح ما أفسد على مدار العقود الماضية. هذا يعني فتح معركة مع جميع المستفيدين من الفساد والمحسوبية في بلد معروف أن هذه الأمور تندرج في صلب نظامه السياسي، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن إمكانية النجاح في هذا الأمر.

العلاقة مع السلطة التشريعية
كما أن السلطة التنفيذية لا تستطيع بمفردها القيام بكل الإصلاحات -إن استطاعت القيام بأي منها أساساً- بل تحتاج أيضاً إلى تعاون مع السلطة التشريعية الممثلة في البرلمان والكتل المختلفة فيه.

هنا يصبح اعتراض "حزب الله" و"حركة أمل" على تكليف سلام أكثر أهمية، إذ سيحتاج سلام إلى أغلبية برلمانية تمكنه من العمل، في حين أن العديد من الكتل التي اختارته، قد لا تشاركه الآراء نفسها بشأن تصوره للاقتصاد والسياسة اللبنانية. 

تحدٍ أكثر خطورة
رغم هذه التحديات التي يمكن التعامل معها، إلا أن سلام قد يواجه تحدياً سياسياً أكثر خطورة.

ظهر هذ التحدي في حديث رعد، إذ قال: "سنواكب الخطوات ونترقب، وسنرى أفعالهم من أجل إخراج المحتل من كل بقعة تراب من أرضنا، وسنرى جودهم من أجل استعادة الأسرى، وإعادة الإعمار، وجهود التنفيذ الصحيح للقرار 1701، بما يحفظ الوحدة والتوافق ولا يهدد العيش المشترك في هذا البلد".

القرار 1701، الذي التزم به لبنان عند إقراره في عام 2006 وبعد ذلك العام الماضي، يُعد مطلبًا دوليًا أساسيًا. لكن الاختلاف يكمن في كيفية تطبيقه؛ إذ يبدو أن مفهوم "حزب الله" للتنفيذ "الصحيح" للقرار قد يتعارض مع توقعات المجتمع الدولي، ما قد يضع الحكومة في مواجهة ضغوط متزايدة من الطرفين. هذا التباين في الفهم والتنفيذ للقرار يعكس عمق التعقيد السياسي الذي قد يعوق عمل الحكومة، ويطرح تساؤلات حول قدرة سلام على تحقيق توازن دقيق بين هذه التحديات المتشابكة.

ماذا نعرف عن قرار مجلس الأمن 1701؟

القرار 1701 ينص بشكل حرفي على ألا يكون هناك "أي أسلحة من دون موافقة حكومة لبنان، ولا سلطة غير سلطة حكومة لبنان"، بالإضافة إلى "إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة، بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان"، بالإضافة إلى تنفيذ القرارات الدولية الأخرى التي تطالب بـ"نزع سلاح كل الجماعات المسلحة في لبنان، حتى لا تكون هناك أي أسلحة أو سلطة في لبنان عدا ما يخص الدولة اللبنانية".

هذه الشروط كلها تستهدف بشكل خاص "حزب الله" الذي عبّر في عدة مناسبات عن التزامه بالقرار، ولكنه لم يسحب عناصره وأسلحته من المناطق المتفق عليها منذ 2006، وهذا ما ظهر جلياً في المواجهات الأخيرة مع إسرائيل. 

اشتراط "صحة" تنفيذ القرار الدولي، قد يدخل البلاد في المجهول، خصوصاً مع شعور لدى "حزب الله" بأن هناك "مؤامرات" داخلية ودولية تحاك لإقصائه، وإكمال ما بدأته إسرائيل العام الماضي.

وللتذكير، فإن "حزب الله" والأحزاب المتحالفة معه شنت عام 2008، هجوماً مسلحاً على بيروت ومناطق أخرى في البلاد، في ما يشبه "الحرب الأهلية المصغرة"، ما أسفر عن سقوط 17 ضحية.

جاءت "الحرب المصغرة" اعتراضاً على قرارين لمجلس الوزراء آنذاك، الأول يتعلق بإزالة شبكة الاتصالات التابعة للحزب من محيط مطار بيروت ومناطق من شمال لبنان، والثاني إقالة قائد جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير.

يمكن اعتبار الأسباب التي أوصلت إلى أحداث عام 2008 "بسيطة" إذا ما قورنت بما هو مطلوب في القرار 1701، ما يعني أن أكبر تحد أمام سلام يتمثل في رسم خطوط التوازنات بين الكتل النيابية، ومعالجة موضوع "حزب الله" بما لا يكسر التزامات لبنان تجاه المجتمع الدولي، ولا يفتح حرباً أهلية مع حزب مسلح لم يعد لديه الكثير ليخسره، بعد معركة مع إسرائيل أسفرت عن اغتيال الكثير من قادته، وضعضعت قوته العسكرية والسياسية.

الأكثر قراءة