أمريكا ولعنة الحرب التجارية

خلال 1988 خرج الرئيس الأمريكي دونالد ريغان موجهاً خطابه للشعب الأمريكي قائلاً ما نصه: "شركاؤنا التجاريون المسالمون ليسوا أعداء لنا، بل هم حلفاؤنا. يجب أن نكون واعين للغوغائيين الذين يعلنون حرباً تجارية على أصدقائنا ويقوضون اقتصادنا وأمننا القومي واقتصاد العالم الحر أجمع، كل ذلك يحدث وهم يرفعون ويلوحون بعلم أمتنا. نمو واتساع الاقتصاد العالمي ليس غزوا خارجيا، بل هو نصر لأمريكا، وهدف نعمل بكل جهد لتحقيقه وهو شيء مفصلي في رؤيتنا لعالم مزدهر مسالم وحر.

كأن هذه الكلمات التي أراد الرئيس الجمهوري إيصالها قبل 37 عاماً لكل من الشعب الأمريكي ولحلفائه وشركائه التجاريين وأيضاً للحمائيين الذين ينادون بإشعال حرب تجارية على من يصفونهم بأنهم يأكلون غداء الأمريكيين، في حين أن الأمريكيين يتفرجون عليهم، ولا يزال يتردد صدى هذا الكلام حتى الآن. لكن الرئيس الذي يحمل الاسم نفسه وينتمي إلى الحزب نفسه هو من أشعل الحرب ضد حلفائه وشركائه المسالمين في 2025 بعد أقل من أسبوعين على استلامه سدة الرئاسة واعتلائه منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بل واتهمهم بالتهمة نفسها التي نفاها عنهم رئيسه السابق قبل ما يقارب الأربعة عقود.

لقد خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وهو الذي لم يكمل شهره الأول في كرسي الرئاسة ليعلن إقراره أمراً تنفيذياً لرفع التعرفة الجمركية على جيرانه الكنديين والمكسيكيين بنسبة 25% بحلول الأول من فبراير ما أدى إلى حالة هلع واضطراب في الأسواق المالية نزف معها مؤشر داو جونز الصناعي بنسبة 1.5% من قيمته هبوطاً وفقد أكثر من 660 نقطة وهو ما بدى أن الجارتين ستفعلان الشي نفسه مع الولايات المتحدة قبل أن تصل المحادثات مع الجارتين إلى تأجيل قرار الرفع 30 يوماً يتم خلالها زيادة عدد القوات الكندية والمكسيكية على الحدود لمنع تدفق المهاجرين غير الشرعيين وتهريب المخدرات التي يعتقد أن 10% من الأمريكيين يتضررون منها بشكل مباشر.

الحقيقة أن قرار رفع التعرفة الجمركية على الجارتين المهمتين لاقتصاد الولايات المتحدة وإن بدى صادراً من موقع قوة يتمثل بقدرة الولايات المتحدة على إلحاق الضرر باقتصاد كلٍ من كندا والمكسيك إلا أن كلا الدولتين كانتا ولا تزالان لديهما أوراق قوة كبيرة يمكنها أن تؤدي دوراً كبيراً في التأثير على الاقتصاد الأمريكي ليس أقلها أن هذه التعرفة سيدفعها ويتحملها المستخدم النهائي الأمريكي الذي سيتضرر جيبه من مثل هذه القرارات ناهيك عن معدلات التضخم الذي ستزيد من معاناة الأمريكيين وهم الذين لا يزالون يعيشون على أمل أن يخفض الفيدرالي صوت طبول الحرب التي يشنها على التضخم ويرخي قبضته على أسعار الفائدة.

لا أعلم إن كان ترمب جاداً في تطبيق هذه القرارات أم أنها سياسة تكتيكية تفاوضية الهدف منها إجبار كلٍ من كندا والمكسيك على مضاعفة الجهود وإرسال مزيد من القوات لحماية الحدود الأمريكية من تجار المخدرات وقوافل المهاجرين غير الشرعيين، ولكن ما أعلمه يقيناً أن الاقتصاد الأمريكي لن يخرج سليماً من الجروح وقد يكون بعضها عميقاً من هكذا حرب تجارية، فالولايات المتحدة تستورد أكثر من 4.6 مليون برميل من النفط يومياً من جارتيها الشمالية والجنوبية ما يجعلها تعتمد عليهما بنسبة 72% مما تحتاجه من نفط الخارج، وإن حاولت الولايات المتحدة استعاضة أكثر من نصف مليون برميل يومياً من المكسيك فكيف يمكنها تعويض أكثر من 4 ملايين برميل يومياً من الكنديين.

بل أن الغاز يحمل قصة أخرى فكيف تستغني الولايات المتحدة أو تستورد بسعر أغلى و تعرفة جمركية أعلى تصل إلى 25% ما يقارب مليار قدم مكعب من الغاز تعبر الحدود الكندية يومياً متجهة إلى الداخل الأمريكي لتضخه في شرايين الاقتصاد الأمريكي المحلي.


هذه الحقائق تضع مثل إعلان هذه الحرب التجارية ضد من تعتمد عليهم الولايات المتحدة في مجال الطاقة أمراً يحمل مخاطر كبرى ويحمل في طياته تأثيراً كبيراً في الاقتصاد الأمريكي والأمريكيون أنفسهم. هذا ما يتعلق بالجارتين المسالمتين والحلفاء الشركاء كما اسماهم دونالد ريغان في خطابه الذي خاطب فيه الشعب الأمريكي عام 1988.

أما الصين الذي أشار إليها ريغان في الخطاب نفسه بأن نمو واتساع الاقتصاد العالمي ليسوا غزواً خارجياً فقد تكون العواقب بفرض رسوم جمركية بنسبة 10% على المنتجات الصينية القادمة للولايات المتحدة مختلفة على الاقتصاد الأمريكي، والأمريكيون، التي لا يرى الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أن الوقت أصبح مناسبا للتحدث إلى الرئيس الصيني ما يعني أنه ليس في وارد الدخول في مفاوضات تجارية أو مراجعة قرار رفع التعرفة الجمركية على الصادرات الصينية لأمريكا، ففي رد فعل يشير إلى الغضب الصيني من قرار ترمب قررت الصين رفع التعرفة الجمركية على واردات الفحم والغاز الأمريكية بنسبة 15% وهي التي تستورد ما يقارب 1.25 مليون طن من الفحم الأمريكي و 10 مليارات قدم مكعب من الغاز، كما قررت رفع التعرفة الجمركية على النفط الخام الأمريكي وسلع أمريكية مختلفة بنسبة 10% وإن كانت الصين تبذل جهوداً صادقة وحقيقة لتخفيض استيرادها من الفحم والغاز الأمريكي.

كل هذا يشير إلى أن القرارات الأخيرة من قبل الإدارة الأمريكية إن لم تكن إعلان حرب واضحة وصريحة فإنها أقل ما يمكن وصفها إنها لن تكون رحلة سهلة ولن تكون تحدياً محدوداً تخوضه الولايات المتحدة وقد تكون بمنزلة لعنة الحرب بل مثل كرة اللهب التي تقذفها وترتد إليها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي