ماذا تعلم ترمب من سنواته الأربع في المكتب البيضاوي؟

ماذا تعلم ترمب من سنواته الأربع في المكتب البيضاوي؟

 

لم يحب رئيس أمريكي أن يمسك قلمه للتوقيع على قرارات أكثر من فرانكلين د. روزفلت، فقد أصدر بصفته قائداً أعلى للبلاد خلال حقبة الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية ما يزيد على 300 أمر تنفيذي سنوياً في المتوسط. وكان هذا الرقم هو الأكبر تاريخياً، وجاء بفضل دعم الكونغرس، حيث تمتع حزبه بأغلبية كبرى، وبفعل تأييد الشعب الأمريكي الذي كان يتطلع إلى قرارات حاسمة في ظل ما ألمّ به من أزمات دامت أمداً طويلاً.

لا تجمع ترمب وروزفلت قواسم مشتركة كثيرة، لكن يبدو أن ولايته الثانية تسير حتى الآن بسرعة تضاهي إيقاع روزفلت. فقد أصدر ترمب 26 أمراً تنفيذياً في اليوم الأول لعودته إلى السلطة وهو عدد قياسي تجاوز سابقه وهو 9 أوامر سجله سلفه جو بايدن، الذي أمضى معظم يومه الأول وهو يلغي قرارات اتخذها ترمب خلال ولايته السابقة.

ركز ترمب في يومه الأول في البيت الأبيض (أو يومه 1462 لمن يشاء أن يحتسب أيام ولايته الأولى) على إعادة تفعيل كثير من سياساته السابقة التي ألغاها بايدن، وإلغاء بعض السياسات التي أقرها بايدن. أما بعض أوامره الأخرى، فكانت أقرب إلى الاستعراض، مثل توجيه وكالات حكومية إلى خفض تكاليف المعيشة وتحقيق ازدهار للعمال الأمريكيين.

لكن في وسط كل تلك الأوامر، ترتسم ملامح سياسات ستعيد تشكيل جوانب من قطاع الأعمال والمجتمع الأمريكي.

انتهاك القانون

كان إمهال ترمب تطبيق "تيك توك" قبل منعه من العمل في الولايات المتحدة قراراً متوقعاً على نطاق واسع بين القرارات التي أقرّها، لكنه كان أيضاً أكثرها إثارة للجدل القانوني. إذ كان الكونغرس قد حدد مهلة نهائية للشركة الصينية التي تملك "تيك توك" لتمتثل إلى القانون وتبيع التطبيق إلى مالك أمريكي أو أن تشاهده يُحظر في الولايات المتحدة، لكن ترمب قرر ببساطة اجتراح قاعدة جديدة.

قال أندرو روداليفيج، أستاذ إدارة الحكومات في جامعة "بودوين" في ماين ومؤلف كتاب (By Executive Order) إن "الأوامر التنفيذية تهدف إلى تطبيق القانون بأمانة، وليس توجيه الوكالات الحكومية صراحة لانتهاكه". واعتبر أن الجانب الأخطر للنهج الذي اتبعه ترمب يتمثل في قراره تعليق التزام أميركا بموجب القانون الدولي في نظر استئنافات طلبات اللجوء.

حاول رؤساء آخرون تحدي القوانين من خلال أوامرهم التنفيذية. فقد سعى بايدن مثلاً إلى إلغاء ديون طلابية تقدر بمليارات الدولارات، إلا أن المحكمة العليا أبطلت قراره معتبرة أنه يتجاوز صلاحياته. أمّا روزفلت فأمر في واحدة من أقسى المراحل خلال ولايته، باحتجاز أكثر من 100 ألف أمريكي من أصول يابانية، في خطوة مشينة أيدتها المحكمة العليا، قبل أن يعمل الكونغرس لاحقاً على تصحيح هذا الخطأ.

طوفان من القرارات التنفيذية

برزت خلال أول أسبوعين من رئاسة ترمب قدرته على إرباك النظام. فيما كانت جلسات تثبيت مرشحيه في مناصبهم قائمة في الكونغرس، استمر الرئيس في إصدار أوامره التنفيذية بوتيرة سريعة. وفي حين أصدر ترمب 55 أمراً تنفيذياً كمتوسط سنوي خلال ولايته الرئاسية الأولى، وقّع خلال أسبوعين فقط من ولايته الثانية نحو 80 أمراً تنفيذياً، وهو عدد أكبر ممّا وقعه أي رئيس أمريكي خلال عام كامل منذ عهد الرئيس جون كينيدي. قال روداليفيج: "تبدو الأوامر التنفيذية الأولى التي أصدرها ترمب استثنائية من حيث النطاق والنبرة، وتظهر ما يمكن أن يحدث إذا كانت لديك أربع سنوات للتحضير".

تطرقت أوامر ترمب التنفيذية إلى مواضيع شتى. فمن جهة، وصّف الوضع على الحدود الجنوبية على أنه "اجتياح"، ومن جهة أخرى أمر بحرمان الأطفال المولودين في الولايات المتحدة من الحصول على الجنسية الأمريكية تلقائياً إن لم يكن أحد الوالدين مقيماً دائماً، وهذا انتهاك للدستور.

استراتيجية متعمدة

يرى روداليفيج أن مثل هذه القرارات المعدة للاستفزاز قد تكون جزءاً من استراتيجية تتعمد طرح أوامر تنفيذية "تستقطب الأضواء ما يستدعي مواجهتها عبر دعاوى قضائية، ما يصرف الانتباه عن السياسات الأخرى كي تُنفذ بهدوء". ويرى آخرون أن الدعاوى القضائية هي أصلاً الهدف من هذه الأوامر التنفيذية، فمن خلال تسريع انتقال الدعاوى إلى المحكمة العليا الميالة نحو اليمين، يمكن تغيير السوابق القانونية.

كما هو متوقع، علّق قاض اتحادي قرار ترمب بشأن حق الجنسية بالولادة، وردّت وزارة العدل بأنها "ستدافع بحزم" عن قرار الرئيس. في هذا الوقت، انسحبت الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية وقلّصت حقوق المتحولين، وأنشأت منصباً حكومياً رسمياً لأغنى رجل في العالم، وأوقفت العمل بأجزاء واسعة من الحكومة وجمدت المساعدات الأجنبية وتراجعت عن قرار يعود إلى 1965 يحظر التمييز على أساس العرق أو الدين في التوظيف.

قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت الأسبوع الماضي إن " الرئيس ترمب لطالما كان أكثر السياسيين اجتهاداً... توقعوا أن يستمر بالعمل بهذه السرعة الفائقة".

لكن الولاية الأولى لترمب لا توحي بأنه سيستمر على هذا الإيقاع. على العكس من روزفلت، الذي كان مدمناً على العمل، يستمتع ترمب بقضاء صباحاته في ملعب الغولف. لكن، كما كان الحال في زمن روزفلت، فإن الكونغرس والمحاكم على اتفاق عقائدي مع الرئيس، بالتالي ستصمد سياساته على الأرجح بما يكفي حتى يحوّل بعضها إلى قوانين، أو حتى يلغيها رئيس مقبل.

لن يصبح روزفلت آخر

كان ترمب قد أعرب في عدة مناسبات عن إعجابه بروزفلت (وهو ديمقراطي بالمناسبة). حتى أنه في بداية ولايته الأولى، استشهد باضطهاد الأمريكيين من أصول يابانية في عهده من أجل تبرير حظر سفر الأشخاص من دول ذات أغلبية مسلمة إلى الولايات المتحدة. (استشهد ترمب مجدداً بقرار روزفلت باحتجاز الأمريكيين من أصول يابانية في خطابه الأول بعد تسلمه منصبه، وذلك طبعاً من أجل التمهيد لإصدار أمر تنفيذي جديد). وقال ترمب في تصريح في 2015 "أنظروا إلى ما فعله فرانكلين روزفلت... وهو واحد من أشد الرؤساء الأمريكيين توقيراً".

هذه نقطة مهمة، لكنها لا تصب للأسف لصالح ترمب، إذ إن روزفلت كان رئيساً واسع الشعبية، بلغت نسبة تأييده 83% في أوجها زمن الحرب، فيما لم تتجاوز نسبة تأييد ترمب عتبة 50% قط (وبحسب إحصاءات معهد "غالوب"، تبلغ نسبة تأييده 47% حالياً). بالتالي، سيصعب عليه الحفاظ على هذا الزخم على مدى السنوات الأربع المقبلة، والأغلب أن يمنعه ذلك من تحقيق طموح آخر يسعى إليه بعض الجمهوريين وهو تجاوز التعديل الدستوري رقم 22 ليصبح ترمب أول رئيس منذ عهد روزفلت يُنتخب لثلاث ولايات رئاسية.


 

الأكثر قراءة