من دولار ماريا تريزا إلى الريال .. كيف استثمرت السعودية إرثها التاريخي؟
فوق أعلى ربوة وقف الإمام محمد بن سعود يتأمل الدرعية من بعيد حزينا على تدهور أحوال المدينة التي ولد ونشأ فيها، إذ أصبحت مرتعًا للصوص وموطنا للفقر وغياب الأمن رغم تمتعها بموقع جغرافي فريد ومقومات طبيعية تجعل الحياة فيها سهلة ومتاحة للجميع، لذلك حسم "الإمام" أمره وشحذ همته لتخليص الناس من هذا الظلم الواضح وتمكن هو ورجاله من القضاء على كل مظاهر الفساد بإقامة الدولة السعودية الأولى في 22 فبراير 1727، ولم يدر في خلده آنذاك أنه يؤسس بذلك تاريخ عريق ستتوارثه أجيال على مدى ثلاثة قرون وسيتم الاحتفال به تحت عنوان "يوم التأسيس".
بحسب المؤرخ ابن بشر في كتابه "عنوان المجد في تاريخ نجد"، كان مجيئ "الإمام" طوق نجاة لأهالي الدرعية ليس لأنه استطاع حمايتهم وتأمين ممتلكاتهم وإقامة نظام صارم، بل لأن الأحوال التجارية ازدهرت في عهده فساد الرخاء بين الجميع كما أنه استبق جميع النظريات الحديثة في شؤون الحكم حين طبق سياسة مالية معاصرة تتضمن بنود منفصلة للمصروفات وأخرى للإيرادات وتأسيس بيت مال له أفرع ما يشبه نظام "البنك المركزي" الآن، ونتيجة ذلك أسس السكان بيوت غلب عليها الزخارف والنقوش المترفة ووصل التقدم إلى درجة صك عملة نقدية سميت ب"دولار ماريا تريزا" أو كما كان يعرف حينها بـ"الريال الفرنسي" وقد استمر التعامل به حتى توحيد البلاد في 1932.
كانت السعودية قد اعتمدت الخميس، رمز عملة الريال السعودي، في خطوة تاريخية تهدف إلى تعزيز هوية العملة الوطنية، مبينة أنه سيبدأ بدء العمل بتطبيق رمز العملة سيتم مباشرة، على أن يتم عكسه في التعاملات المالية والتجارية والتطبيقات المختلفة بشكل تدريجي، وذلك بالتنسيق مع الجهات الرسمية ذات الاختصاص.
هذه المبادرة التي تستهدف تشجيع الاعتزاز بالهوية الوطنية والانتماء الثقافي، وإبراز مكانة الريال السعودي وتعزيز الثقة به، وإظهار مكانة السعودية ضمن الاقتصادات العالمية الكبرى ودول مجموعة العشرين، ستسلط الضوء على تنامي أهمية دور العملة الوطنية في المنظومة المالية العالمية، وفقا لما ذكره محافظ البنك المركزي السعودي "ساما" أيمن السياري.
رمز العملة الوطنية - الذي صمم بأعلى المعايير الفنية - يجسد ثقافة السعودية وتراثها العريقين، حيث يحمل الرمز اسم عملتنا الوطنية "ريال" بتصميم مستوحى من الخط العربي، وسيعزز الرمز من تمثيل الريال السعودي في السياق المحلي والإقليمي والدولي، ما يجعله مناسبًا للاستخدام في الإشارة إلى الريال السعودي في جميع التعاملات المالية والتجارية.
الإرث التاريخي مكن السعودية من استثماره جيدًا مع إطلاق رؤية 2030 والتي شملت إطلاق برامج لتعزيز الشخصية السعودية وترسيخ هويتها من خلال إحياء تاريخها العريق وتسليط الضوء على الثقافة السعودية وفنونها، وكانت البداية بالأعياد والأيام الوطنية، ففي 2022 صدر الأمر الملكي باعتبار يوم 22 فبراير من كل عام ذكرى لتأسيس الدولة السعودية الأولى تحت عنوان "يوم التأسيس" واعتباره إجازة رسمية، كما صدر أمر ملكي آخر في 2023 بتحديد 11 مارس يومًا خاصًا بالعلم الوطني لمعرفة تاريخ تلك الراية التي لم تنكس أبدًا على مدى قرن.
إضافة إلى ذلك تولت وزارة الثقافة إطلاق عدة مبادرات لتسليط الضوء على مكونات الهوية السعودية وأبرز معالمها، فخصصت عام 2022 لـ"القهوة السعودية" وأطلقت فعاليات كثيرة للتعريف بما يعنيه هذا المشروب في الجزيرة العربية، وكذلك فعلت أيضًا مع الشعر العربي الذي خصصت له عام 2023، بينما كان 2024 من نصيب "الإبل" التي تعد ركيزة أساسية في تاريخ المملكة، واستكمالًا لهذا النهج تم تخصيص العام الجاري للحرف اليدوية والتعريف بها ودعمها باعتبارها أفضل دليل على مهاراة أبناء الجزيرة وفنونهم.
من جانب آخر، عملت السعودية على الاهتمام بالأماكن الأثرية كجزء أساسي من تعزيز الهوية السعودية وحظت الدرعية "مهد الأجداد" بالنصيب الأكبر بعد أن خضعت لخطة تطوير ضخمة مازالت جارية بتكلفة 63 مليار دولار من أجل أن تصبح المدينة عنصر جاذب وقادر على جلب 25 مليون زائر بحلول عام 2030، كما حدث نفس الأمر في مواقع أثرية أخرى مثل العلا التي تشهد منذ 2021 مشروعات عملاقة تحت عنوان "رحلة عبر الزمن" لتبرز المدينة حضارتها المتنوعة وتكشف عن من حضارات من استوطنوها على مدى أكثر من 7 آلاف عام، ومن ناحية أخرى متوقع عند اكتمال هذا المخطط في 2035 أن توفر المدينة 38 ألف فرصة عمل وتساهم بمبلغ 120 مليار ريال في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة.
ورغم أن البعض يرى أن الاستثمار التاريخي لا يحقق أرباحا كبيرة من الناحية الاقتصادية، لكن الأرقام والإحصاءات تؤكد عكس ذلك في السعودية، فخلال عامين استطاعت الدرعية جذب مليون زائر رغم أن ما تم من المشروع 5% فقط بحسب طلال كنسارة رئيس قطاع الإدارة الإستراتيجية في شركة الدرعية، كما شهدت العلا رواج سياحي كبير في نفس الفترة، أما مبادرات وزارة الثقافة فكان لها أثرها الملموس أيضًا فبسبب تسليط الضوء على مكونات الثقافة السعودية وتنوعها، ارتفعت قيمة قطاع البن إلى 15.3 مليار ريال في 2024 كما أبرمت الشركة السعودية للقهوة والتابعة لصندوق الاستثمارات العامة للمملكة شراكات إستراتيجية للتوسع العالمي وسط توقعات بأن تتجاوز مبيعات القهوة خلال العام الجاري نحو مليار دولار داخل السعودية فقط.
الأمر ذاته حدث أيضًا مع الإبل بعد تسليط الضوء عليها وكشف تاريخها ومنتجاتها عربيًا وعالميًا، إذ وصل سوق جلود الإبل في السعودية إلى 98.7 مليون دولار سنويًا في 2023 مع توقعات بنسب نمو تتخطى الـ10% خلال السنوات المقبلة خاصة بعد التوسع في منتجات الإبل في صناعة الأزياء، أما الحرف اليدوية فجنت هي الأخرى ثمار عامها الجاري بعد أن وصل حجم قيمتها المتوقع 1.3 مليار دولار في عام 2028 من بين مكاسب مباشرة وأخرى غير مباشرة تتمثل في تعزيز الصورة الذهنية الإيجابية للمملكة عالميا.