يوم التأسيس السعودي .. حكمة الأجداد تلهم جيل الرؤية
الاحتفال بالمناسبات الوطنية فكرة أبدعها العقل الجماعي لتأكيد على شخصية الأمة، وإبراز ذاتيتها، والتعريف بموقعها في التاريخ والحضارة الإنسانيين. وقد حدث كثيرا أن اضطرت قوميات وأمم "لاصطناع" سرديات تمنحها الإحساس بالذاتية الجماعية (النحن)، وتضفي على وجودها قيمة ومعنى يدفعها للسير نحو المستقبل.
فكيف إذا كان الأمر حدثا تاريخيا بالفعل، أرسى قوام دولة وصنع أمجاد أمة، بل من المؤرخين المعاصرين من يصنفه في خانة الأحداث التاريخية الكبرى، لأن ما جرى عام 1727 على يد القائد محمد بن سعود حينها كان حدثا عاديا، لكن تداعياتها وأثارته كانت استثنائيا. فالموقع الإستراتيجي للدرعية على وادي حنفية، أعاد تشكيل جغرافية شبه الجزيرة العربية برمتها.
يوم التأسيس السعودي، المحتفى به في 22 فبراير كل عام، ليس مجرد ذكرى لحدث في تاريخ مضى، بقدر ما هو لحظة ميلاد الأمة السعودية، وبداية رحلة الشعب السعودي نحو المستقبل، حيث يسعى الأحفاد إلى صيانة إرث الأجداد، وإتمام أحلام الآباء بهم وحزم وإصرار، جيلا بعد آخر في مسيرة ممتدة عبر 300 سنة.
في استعادة صفحات 3 قرون من التاريخ، اكتشاف لتفاصيل وجزئيات طواها الزمان بغمرة الأحداث السياسية الكبرى، فكانت ذكرى يوم التأسيس مناسبة مثالية لاستعادتها، في لحظة هدوء وسكينة وصفاء، ونقصد هنا التراث الوطني الذي أضحى، بمعيار الأمم المتحدة، جزء لا يتجزأ من الرأسمال اللامادي للشعوب والأمم، وأساسا متينا في تشكيل الهوية الجماعية لأي شعب أو أمة.
لقد كان إقرار مناسبة يوم التأسيس، وبقية المناسبات الوطنية المحتفى بها في السعودية، فرصة للأجيال الصاعدة لإنعاش ذاكرتهم بشأن سيرة الآباء المؤسسين للبلد. كما مثل بالنسبة للأجانب، بما في ذلك العرب والمسلمين، لحظة لاكتشاف فصول من تاريخ مجهول عن السعودية.
اكتشف العالم في الأعوام الأخيرة، ولا سميا بعد إعلان القيادة عن "رؤية 2030"، سعودية أخرى غير بلاد "الصحراء" التي اقترنت بها اسم البلاد في الإعلام. نعم، دولة بشعب وتاريخ وهوية وثقافة وأصالة، فيها غنى طبيعي وثراء ثقافي وتنوع مجتمعي وشموخ حضاري... إنها القوة الناعمة سر نجاح السعودية في بلوغ أصقاع العالم.
كان ذلك السر الذي قاد الأب المؤسس، الإمام محمد بن سعود، إلى كسر شوكة الأعداء، بتوحيد معظم مناطق نجد تحت رايته، وتثبيت الأمن والأمان بطرق الحج والتجارة، وانتشار خبر الدولة القوية في أنحاء شبه الجزيرة العربية، بقدرتها على تحويل الصحراء إلى مركز جذب.
ذات السر يتجدد اليوم ويتكرر مع قيادة السعودية بعدما اختار الأمريكيون والروس السعودية، دون غيرها من الدول، مكانا لاستضافة محادثات ثنائية بينهما، في خطوة مفاجئة لأولئك الذين لا يتابعون الأدوار القيادية التي تقوم بها السعودية على الصعيد الدولي المستوى، وقبل ذلك رزانة مواقف الرياض حيال عديد من الأزمات، والديناميكية التي تتحرك بها على كافة الأصعدة والجبهات، بحثا عن حلول للأزمات والتحديات الدولية.
يوم التأسيس ذكرى لاستحضار تفوق الآباء المؤسسيين للدولة قبل 3 قرون، في تقويض الفوضى والاضطراب وتثبيت الأمن ونشر السلم بشبه الجزيرة العربية. طموح لا تتوانى قيادة البلاد عن السعي نحوه، بأفق أوسع ومدى أكبر، فالتحدي انتقل بالنسبة للدبلوماسية السعودية من شبه الجزيرة العربية نحو ضمان أمن العالم واستقراره، برأب الصدع بين قطبي الصراع (أمريكا وروسيا).