لماذا مكافحة التضخم صعبة؟

مرت بالعالم خلال السنوات الثلاث الماضية موجة تضخم. موجة جاءت بعد حالة اضطراب في الاقتصاد العالمي إثر جائحة كورونا. وكان من أهم طرق مكافحة الجائحة فرض التباعد والإغلاق العام وخاصة لخدمات عامة. جلبت طرق المكافحة تغييرات في سلوك المستهلكين. من أهم التغييرات زيادة ملحوظة في الطلب الاستهلاكي تجاه السلع، وانخفاض ملحوظ في الطلب على الخدمات.

تلك الأحداث صاحبتها توجهات عالمية في السياسات النقدية والبنوك المركزية. جوهر التوجهات حصول توسع وتنشيط مالي ونقدي قوي. تسبب هذا التنشيط في زيادة قوية في الطلب الاستهلاكي. لكن العرض لم يواكب هذه الزيادة في الطلب. النتيجة فجوة بين العرض والطلب تسببت في رفع أسعار السلع وخاصة بعضها.
يضغط التضخم تجاه تحفيز الأعمال، ورفع الأجور. لكن من الملاحظ أن ارتفاع الأجور يقل عن ارتفاع الأسعار. وعكس التضخم الانكماش. وقد حدث في العادة مع انكماش النشاط الاقتصادي وضعف دورة الأعمال. ومع هذا الضعف تزيد العطالة.

نمو العرض النقدي يرفع الأسعار إذا تجاوز نمو العرض النقدي النشاط الإنتاجي، ما يوجد سيولة تتداولها الأيدي فترفع الأسعار. ترتفع حتى لو لم يزد العرض النقدي إذا انخفض النشاط الإنتاجي. ومن ثم فهناك علاقة بين الإنتاجية في الدولة ومستوى الأسعار. وانخفاض الأسعار مشكلة أكثر في الدول ذات الإنتاجية الأقل.
جاءت الأحداث الروسية الأوكرانية وما تبعها من تبعات، جاءت لتزيد الطين بلة. حصل ارتفاع قوي في أسعار كثير من المواد الأولية والسلع، ما جعل معدلات التضخم عالميا من أعلى المعدلات خلال السنوات الأربعين الماضية.
حاولت البنوك المركزية وخاصة الكبرى وعلى رأسها الفيدرالي، مكافحة التضخم عبر رفع معدلات الفائدة. ولكن الاقتصادات في العالم لم تكن مهيأة للاستفادة من هذا الرفع. كثير من البنوك تعاني مشكلات، بسبب الأحداث السابقة، ما جعل استفادتها من رفع الفائدة ضعيف نسبيا. وطبعا تأثرت سلبا أرباح البنوك فترة خفض معدلات الفائدة.

ما سبق جرّ جهات عالمية كصندوق النقد الدولي على عمل دراسات عن العلاقة بين التضخم وربحية البنوك وفي فهم ما يحيط بهذه العلاقة من مخاوف. بين دراسات أن معظم البنوك منعزلة إلى حد كبير عن التحول في معدلات التضخم - حيث توازن أثر التضخم على الإيرادات والمصروفات بعضها البعض. كما بينت الدراسات أن كثيرا من البنوك متضررة بصورة واضحة من تداعيات التضخم. هذا التضرر يجر إلى شيء من عدم الاستقرار المالي.
موجة التضخم التي جاءت بعد كارثة كورونا جعلت عددا من كبريات البنوك المركزية تعيد تقييم سياساتها النقدية. تبين أنه يجب أخذ موضوع الاستقرار المالي في القطاع الخاص وخاصة في البنوك، بالحسبان، عند تبني سياسات نقدية تكافح التضخم.

وتشير النتائج إلى أن البنوك المركزية ربما يكون عليها وضع الاستقرار المالي في الحسبان عند تحديد موقف سياساتها النقدية في مواجهة التضخم. لكن تشديد السياسات النقدية لمكافحة التضخم له ثمن يسبب في خفض أرباح البنوك بصورة ملموسة، تدفع كثيرا من المستهلكين والمستثمرين إلى نوع من الذعر وضعف في الاستقرار المالي.
وهناك جانب آخر لصعوبة مكافحة التضخم. ضخامة الديون العامة لكثير من الدول، وعلى رأسها أمريكا. وقد طالب كثيرون من دول مختلفة بتشديد القيود على تصرفات الحكومات في المالية العامة. تقليل الاستدانة لخفض العجز يساعد على خفض التضخم. لكن الموضوع تحت جدال كبير.
هل نشهد في المستقبل القريب توقف نمو عجز ميزانيات الدول مصحوبا بتوقف نمو العرض النقدي؟ هناك احتمال بحصول ذلك خاصة في أمريكا ومنطقة اليورو. وهذا يبعد الاقتصاد العالمي عن الوقوع في موجة تضخم مرتفع خلال االمستقبل القريب. لكن حصول ذلك له ثمن باهظ.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي